إعداد : سناء السعيد حسن
الأوضاع الأمنية
فمنذ الإنتفاضة وانتشار السلاح ما بين المواطنين وتكوين ما يسمى بالمليشيات المسلحة، حاول الحكام المؤقتون منذ الإنتفاضة في ليبيا إقناع الآلاف من مقاتلي هذه الميليشيات بالإنضمام إلى الجيش والشرطة، والخدمة المدنية لمحاولة تفكيك القوات التي يسيطر عليها قادة متنافسون لهم ولاءات الأقاليم معينة، ومازال بقايا مؤيدي القذافي يتأمرون على الدولة، وتطبق القانون بنفسها في مناطق عديدة، وتقيم حواجز على الطرق، وتعتقل مشتبهين بهم رغم عدم وجود قوة رسمية أو سلطة لهم في البلاد.
الأوضاع الاقتصادية والمالية
تعتمد ليبيا إلى حد كبير على قطاعها النفطي، الذي أمن لها عائدات بنحو 45 مليار دولار في 2010 ويمثل نحو %95% من صادراتها، وحققت ليبيا فائضا في الميزانية عام 2010 بلغ 12 مليار دولار نظرا الارتفاع أسعار النفط في هذا العام.
ويقدر أن بعض الإستثمارات الليبية لم يتم استثمارها باسم الدولة، رغم أنها اعتمدت على أموالها، وإنما استثمرت باسم القذافي، وأفراد عائلته، وبعض أقاربه وأعوانه، وينطبق هذا على إستثمارات الساعدي في إيطاليا، وسيف القذافي في بريطانيا، وسويسرا، وعدد من الدول الأوربية الأخرى، كما ينطبق على استثمارات أحمد قذاف الدم في مصر، وسوريا، وبلدان أفريقية، مما سبب ذلك أزمة في السيولة النقدية في الدولة الليبية مما أضر بالاقتصاد الليبي وأثر على معيشة المواطنين في الدولة.
العامل الجيوبوليتيكي
تواجه ليبيا معضلة جيوبوليتيكية عكست ضعف الدولة منذ استقلالها، وتكمن في إفتقاد الدولة نواة مركزية جغرافية، فليبيا دولة مترامية الأطراف تصل مساحتها إلى قرابة مليون و 800 ألف كيلومتر، وهي موزعة جغرافيا بين إقليمين أولهما صحراوي، وهو يشكل غالبية مساحة البلاد، والآخر متوسطي يقع على الأطراف في الشريط الضيق على البحر المتوسط.
ذلك أدي إلى خريطة سكانية مبعثرة ومتباعدة، بجانب الساحل الأمر الذي جعل نواة الدولة وكثافاتها السكانية الأعلى في منطقة طرابلس، وليس في القلب، ومع ظهور النفط في برقة في الستينيات أصبحت هناك نواتان متنافستان في السيطرة على الدولة بينما ظل الجنوب يعاني فراغا سكانيا بسبب غياب بنية المواصلات التي تقرب بين الأقاليم مما أضعف القبضة المركزية للدولة على الأقاليم.
كان لهذه التوزيعة السكانية أثر كبير على توزيع القوى ما بين الاطراف المتصارعة على السلطة فضلا عن سيطرة قبائل معينة تدين بالولاء لاطراف الصراع السياسي اللليبي مما يشكل تنافس إقليمي ويهدد بإنقسام البلاد .
التدخلات الخارجية الدولية الاقليمية والعالمية
لا تخلو عملية فشل الدولة بشكل عام من عمليات ممنهجة من التدخل الخارجي للحد الذي يمكن وصفه بإفشال الدولة وهو ذلك التدخل المقصود منه فشل وانهيار الدولة، وإن كان ذلك يعد العامل الحاسم في عملية فشل الدول، فالفشل بشكل عام هو أنهيار مؤسساتي داخلي وفقدان القدرة على السيطرة على سيادة الدولة من التدخلات الخارجية.
أحيانا نسب فشل الدولة تختلف من دولة إلى الأخرى على حسب النسب الترجيحية لكل عامل على حدة، أحيانا تكون الدولة قوية نسبيا من حيث المؤسسات ولكن هناك رغبه خارجية لإفشال الدولة مثل ما حدث في العراق 2003.
وأحيانا يكون هناك أنهيار مؤسساتي داخلي وتدخّل خارجي ممنهج للفشل وإضعاف قدرة الدولة، تظهر هنا الأشكالية في فشل الدولة بمساعدة العوامل الداخلية والخارجية للدولة وابرز مثال على ذلك الدولة الليبية .
كما تناول الباحث من حيث عوامل الضعف الداخلية فيما سبق، ويزداد الوضع خطورة لدى الدولة الليبية بفعل التدخلات الإقليمية والعالمية من القوى الصاعدة والقوى الكبرى في النظامين الإقليمي والعالمي بالقوة العسكرية أو دعم الكتل المتصارعة بالسلاح والدعم في المؤتمرات الدولية والمنظمات الدولية والتي تساعد بشكل رئيسي على تمدد الصراع الليبي وإنهيار الدولة الليبية.
ولم يقتصر التدخل الدولي في ليبيا على فترتي ما قبل الإنتفاضة وبعدها فحسب بل تعدى ذلك، فبتدخل حلف الناتو لإسقاط النظام السياسي بزعامة القذافي، بل امتد ليأخذ شكلا أكثر تعقيدا وبعدا أخطر، حيث أصبحت ليبيا ساحة للتنافس بين قوى إقليمية ودولية عديدة، كل منها يحاول تحقيق مكاسب استراتيجية عن طريق دعم ومساندة أحد الفصائل الليبية المتنافسة.
ويتضح أن التدخل الخارجي الذي أدى الى سرعة إسقاط النظام السياسي برئاسة القذافي، هو ذاته الذي انقلب على مكتسبات الثورة الليبية ولكن بطريقة غير مباشرة، معتمدا على تأجيج الخلافات بين كافة أطياف المجتمع الليبي وزيادة حدة الصراعات والانقسامات القبلية والجهوية.
فتحولت ليبيا إلى منطقة الممارسة للنفوذ الأجنبي بأياد عربية وداخلية، وأصبحت معها الساحة الليبية مرتعا لفوضى جماعات العنف والميليشيات المسلحة المتناحرة، على اختلاف مسمياتها بأبعادها السياسية والمناطقية وفق حسابات ضيقة الأفق، مما أدى إلى تعثر المسار الديمقراطي.
الإعتماد على اقتصاد النفط الريعي
إن اعتماد ليبيا على سياسة الاقتصاد الريعي وغياب الاقتصاد الإنتاجي، جعلها تعاني من مشكلات اقتصادية كبيرة، ظهرت بشكل جلي بعد الانتفاضة، حيث تأثر الاقتصاد الليبي بفعل انخفاض الانتاج الذي تسببت فيه حالة الانفلات الأمني واستيلاء الميليشيات المسلحة على المنشآت النفطية.
ذلك شكل رادعا أمام الشركات الأجنية جعلها تخفف من استثماراتها في المنطقة معبرة عن خوفها من شراء النفط الليبي في المستقبل. وهو الأمر الذي أثر سلبا على الجهود الرامية إلى تحقيق التحول الديمقراطي وبناء مؤسسات الدولة، في ظل وجود سلطات ليبية هشة غير قادرة على تحقيق الإصلاح الذي من شأنه دعم النمو في البلاد.
بل أكثر من ذلك، فطبيعة الصراع بين قوات حفتر وقوات مصراتة الداعمة للمجلس الرئاسي لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” في سرت، ما هو إلا صراع حول منابع النفط في المنطقة، وقد سعى حفتر الى السيطرة على منابع النفط وسط الصحراء الليبية جنوب الهلال النفطي لأهمية النفط في المعادلة السياسية الليبية.
فالمسيطر على موارد النفط سيسيطر على مجريات الحوار السياسي بين الليبيين، ويؤثر على حيثيات بناء الدولة الليبية في المستقبل.
محدودية فعالية المجتمع المدني
إن اعتماد النظام السياسي في ليبيا منذ سنة 1969 نظام المحاصصة القبلية عطل امكانية تطور مجتمع مدني منظم في ليبيا إلى أن جاء المجلس الوطني الانتقالي، فقام بمجموعة إصلاحات ارتفع بموجبها عدد منظمات المجتمع المدني، وكان لهذه المنظمات دور بارز في ولادة العديد من الكيانات السياسية التي تقدمت بالترشح لانتخابات المؤتمر الوطني العام، والتي شكلت فيما بعد النواة الأولى لظهور أحزاب سياسية عديدة.
إلا أن انفلات الأوضاع الأمنية واندلاع المواجهة المسلحة بين المعسكرين المتصارعين في ليبيا منذ سنة 2014، قد أثر على عملها، فاضطرت أغلبية تلك المنظمات إلى تحويل نشاطها باتجاه العمل في الميدان الانساني.
كما أنها انقسمت إلى قسمين نتيجة للوضع الليبي المجزأ:
ـ منظمات متمركزة في الشرق، تقوم بالتنديد والإشهار بالانتهاكات التي تحدث في الجزء الغربي المنافس، من أجل حصولها على دعم ومساندة الحكومة المركزية .
ـ وأخرى متمركزة في الجزء الغربي، تركز أكثر على الانتهاكات التي تحدث في الجزء الشرقي لاستعطاف السلطة المركزية في غرب البلاد، حيث إن ولادة المجتمع المدني الليبي في ظل هذه الأوضاع غير المستقرة، جعل منه يعاني صعوبات ومعضلات عديدة، إنعكست سلبا على المردود العام لمؤسساته خاصة فيما يتعلق بالمساعدة في إعادة الاستقرار وتحقيق انتقال ديمقراطي سلس في ليبيا.
التعددية القبلية
ارتكزت التركيبة السوسيولوجية للسلطة السياسية والأمنية في قمة الهرم على نظام الحكم في ليبيا منذ القِدَم، على العامل القبلي في اختيار القيادات العليا في الدولة، حيث ركزت السلطة السياسية بشكل أساسي على قبائل بعينها، أين قامت هذه القبائل بدعم أركان النظام ومده بالعديد من القيادات الأمنية والسياسية طيلة فترة زمنية طويلة.
كما أن ذلك خلّف عدم المساواة بين القبائل الليبية في غياب الأمن في البلد، فقد عمل نظام القذافي” على تهميش أبناء عدة قبائل في الجنوب، ويتأتى السخط على مستوى أوسع نطاقاً، من التهميش المنهجي لجماعتين كبيرتين غير عربيتين في الجنوب، هما التبو والطوارق.
قام القذافي بالتركيز بشكل خاص على الطوارق، واعداً بالحصول على الحقوق كاملة، في مقابل الالتحاق بالأجهزة الأمنية التابعة له، غير أن الكثير من الوعود لم تتحقق أبدا، وقد كان الإرث الذي خلفته، مقروناً بالتنافس الاقتصادي والانهيار المؤسسي من المسببات الأساسية للصراع في مرحلة ما بعد 2011.
تتعدد التركيبة السكانية في ليبيا، حيث أنها خليط غير متجانس من الأعراق والقبائل والعائلات العربية والأمازغية والفينيقية والطارقية والأفريقية والأتراك والشركس والايطاليين.
يصعب تحديد العدد الدقيق للقبائل الليبية، ويغلب على المجتمع الليبي الطابع العربي الإسلامي، إذ يدين الأغلبية بالاسلام، ويتحدث الأغلبية اللغة العربية مع وجود لهجات محلية منافسة كالأمازغية والترقية والتابوية.
فبالرغم من العدد الكبير من القبائل، فإن هناك 30 قبيلة فقط تؤثر بشكل كبير في المشهد السياسي لما تمتلكه من تكتلات عائلية نجحت من خلالها في فرض نفسها من خلال ميليشياتها المسلحة التي تمثل جيشًا شبه مستقل لكل قبيلة على حدة، حيث تقاس قوة كل قبيلة بحجم تلك الميليشيات ودرجة تسليحها.
وبفعل تغليب المعطى القبلي في فترة حكم القذافي، قُتلت ثقافة التنظيم المؤسسي ودُمّرت مؤسسات الدولة، فانعدم بذلك شعور المواطنين بالانتماء. وهو الأمر الذي انعكس سلبا على عمل قادة المرحلة الانتقالية، فوجدوا أنفسهم مهتمين بالسياسة الحزبية والقبلية أكثر من اهتمامهم بتنفيذ الخيار الديمقراطي كأولوية.
ذلك أدى إلى فشل الفرقاء الليبيين في إنشاء أرضية مشتركة تحقق التوافق المطلوب لتسيير المرحلة الانتقالية، والتحالفات القبلية لم تكن متجانسة، بوجود تنافر قبلي داخل الحلف الواحد فاجتماعها سببه المصالح المشتركة لا غير.
***
الدراسة باشراف : د. محمد نور البصراتي– كلية السياسة والاقتصاد – جامعة بني سويف – مصر
______________