أيمن البوغانمي

مرة أخرى تتعالى في تونس أصوات تطالب بتبني نظام رئاسي. ومرة أخرى ينزلق جزء من النخبة إلى الشعبوية.

وعنوانها هذه المرة: الاستفتاء لحسم الخلاف.

وكأن هؤلاء لا يعلمون الوضع الإشكالي الذي تطرحه قضية الاستفتاء في الديمقراطية.

ألم يكن الكثير من هؤلاء يقولون بعد 2011:

إن اختيار الأغلبية غير كاف، ومن ثم أهمية الدستور؟

كيف يروّج اليوم للقفز فوق الدستور؟

كيف يسمح أحد لنفسه أن يطرح هذه الفكرة أصلا قبل تركيز المحكمة الدستورية؟

إن في الاستفتاء خطرا حقيقيا على الديمقراطية. ولذلك يمنع الاستفتاء في كثير من البلدان من قبيل الولايات المتحدة وبلجيكا.

صحيح أن الاستفتاء يوحي بأنه ديمقراطي لأن القرار نابع من الشعب. ولكن كل الدراسات في العلوم السياسية تثبت أن الغالبية الساحقة من الشعب حين تسأل في استفتاء ما، لا تجيب على السؤال بقدر ما تعبر عن المشاعر التي تحكمها في تلك اللحظة.
ألم تتابع النخب التونسية ما حدث في بريطانيا حين الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوربي؟

ألم تقم الحملة الانتخابية حينها، في هذا البلد المتطور والمثقف، على الأكاذيب والمغالطات؟

ألم يعد دعاة الخروج بتغيير الواقع البريطاني في حال التصويت لصالح مقترحهم؟

هل حد ذلك؟ نعم، ولكن إلى الأسوإ.

ومن يتابع الحياة السياسية البريطانية يعلم حجم الندم وعمق الانقسام الذي يعصف ببريطانيا منذ ذلك الخطأ التاريخي. ولكن لا يفيد الندم.

لماذا تصر بعض النخب التونسية على عدم تعلم الدروس من تجارب الآخر؟

هل لا بد لنا أن نعيش الكارثة حتى نستوعبها؟
نعم، إن الاستفتاء من أجل تغير النظام السياسي التونسي سيكون كارثة على البلد. ولن تقلّ عنه كارثية نتيجة هذا الاستفاء التي هي محسومة مسبقا.

فأغلب الناس لا يملكون الوقت للتأمل في حجج عقلية أو براهين تقنية سترجح كفة نظام على نظام.

سيصوت الناس أساسا بالعودة إلى رفضهم للواقع. وسيكونون بالتالي، كما كان البريطانيون من قبلهم، ضحايا لوهم أن الواقع الحالي هو الأسوأ، وأن أي تغيير هو مدعاة للاستبشار.
ذاك غير صحيح. ليس الوضع التونسي الحالي هو الأسوأ.

ويمكن للأمور أن تكون أسوأ بكثير. وهي ستكون بالتأكيد أسوأ بكثير في حال تبني نظام رئاسي كما يقترحه الكثيرون.
لا أحد ينكر أن ثمة دولا ناجحة ديمقراطيا تعتمد النظام الرئاسي. ولكن هذه الدول إنما نجحت في التأليف بين الديمقراطية والنظام الرئاسي بفضل عراقة ثقافتها البرلمانية.

فإذا كانت فرنسا مثلا قد تبنت نظاما يقال عنه أنه رئاسي بعد 1958، فإنها قد فعلت ذلك بعد ما يقارب القرن من النظام البرلماني المحظ تحت حكم الجمهورية الثالثة والرابعة.
إن الأنظمة الرئاسية خطيرة بطبعها على الديمقراطية لما فيها من شخصنة للسلطة. ولكنها تزداد خطورة بمرور الوقت.

ولنذكّر أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2000، ثم عام 2020، قد كادت تعصف بالديمقراطية في أحد معاقل الديمقراطية. ولولا ثقة الأمريكيين بمؤسساتهم القضائية، وخاصة بالمحكمة العليا، لما قاومت الديمقراطية حين واجهت تلك الأزمات المشهورة.

وليست هذه الأزمات بالاستثناء. فأغلب بلدان أمريكا اللاتينية وافريقيا المعتمدة للنظام الرئاسي قد شهدت أحداثا أخطر، وصلت أحيانا إلى الحرب الأهلية.

ألا تتابع النخب التونسية ما يحدث في البيرو اليوم؟

أنسوا ما حدث في بوليفيا العام الماضي؟

ألا يرون أن الانتخابات الرئاسية قد أوصلت جايير بولسينارو ودونالد ترامب وغيرهما من الشعبويين إلى مقاليد الحكم في بلدانهم؟

ألا يرون النتائج في مقاومة الكورونا مثلا؟

هل نسوا ما حدث قبل ذلك في الكوتديفوار من حرب أهلية جراء صراع ثنائي بين لورون باغبو والحسن واتارا؟

هل يعلم أحد أمثلة مشابهة في أنظمة برلمانية؟
مرة أخرى: لماذا يريد البعض أن نجرّب الويلات على أنفسنا حتى نفهم أنها ويلات.

أهي حساباتهم الضيقة التي تقول لهم: فلتذهب الديمقراطية إلى الجحيم. بل لعلها تقول لبعضهم: فليذهب البلد نفسه إلى الجحيم؛ المهم أن يكون لي أمل أن أصل إلى كرسي الرئاسة، وأن أصبح أنا الحاكم بأمره، كما يسعى إلى ذلك اليوم رئيس الجمهورية قيس سعيد.
قبل أن أنهي، لا بد من الإجابة عن سؤال مهم:

لماذا يشكّل النظام الرئاسي تهديدا للديمقراطية؟

والجواب أن طبيعة الانتخابات فيه قائمة على منطق الربح المطلق والخسارة المطلقة. أي أن من يربح الانتخابات الرئاسية في نظام رئاسي يشعر بأنه يملك صلاحيات لا تقاوم، ومن يخسر الانتخابات الرئاسية يشعر أن خصمه الرابح قادر على إقصائه، بل وعلى أكثر من ذلك.
في المقابل، لا يمكن في نظام برلماني، أو حتى في نظام مختلط على الطريقة التونسية، توقع ذلك. إذ يستحيل أن يربح الرابح كل شيء، وبالتالي يستحيل أن يشعر الخاسر بأنه قد خسر كل شيء.

لا يعني ذلك أن النظام البرلماني محصن من الانحرافات. ولكن التهديد فيه أقل، وأقل بكثير.
مع كل ذلك، أصبح النظام الرئاسي اليوم أكثر خطرا على الديمقراطية من ذي قبل. ذلك أن النخبة السياسية والإعلامية كانت إلى عهد قريب تستطيع في فرنسا مثلا فرض حد أدنى من الانضباط في الفرز الأولي للمرشحين.

فلا أمل لغير المرشحين الجديين الذين تدرجوا في سلم السلطة والذين شهد لهم المجتمع بالجدارة السياسية أن يصلوا إلى قصر الإيليزاي.

اليوم لم تعد هذه الضمانات متوفرة. وبالتالي، يمكن لأي فنّان أو كوميدي أو إعلامي أو لاعب كرة قدم أن يستغلّ شهرته للوصول إلى السلطة. ولمن يعتقد أن حالة قيس سعيد استثناء وأن الأمور لن تلبث أن تعود إلى نصابها، فليراجع حساباته، وليعلم أن المفاجآت قد أصبحت تكاد تكون هي القاعدة في الانتخابات الرئاسية، خاصة في ظل تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي، بل وإمكانية التلاعب بالانتخابات من الخارج. وإذا كان ذلك ممكنا في الولايات المتحدة، فهو أيسر في بلد كتونس.
في بلد كتونس، يمثل اللجوء إلى الاستفتاء من أجل فرض نظام رئاسي مقدمة لخطرين: إما عودة الدكتاتورية وإما الحرب الأهلية.

ففي بلد حديث العهد بالديمقراطية ومشحون بالانقسامات العميقة، لا يتوقع أن ينضبط الرابح إذا شعر بأنه قد ربح كل شيء. ولا يتوقع أن يصمت الخاسر إذا اقتنع أنه قد خسر كل شيء.

إليكم المثال النظري التالي: عبير موسي في مواجهة راشد الغنوشي في الدور ثان من الانتخابات الرئاسية. إنها مواجهة، إن حدثت، ستحرك كل النعرات. ولكن في نظام المختلط الحالي، سيعتقد الخاسر أن البرلمان سيمكّنه من كبح جماح الفائز.

ولكن أيضا لكل أن يتخيل كيف سيكون الوضع إذا لم يكن هذا الأمل واردا، كما هو الحال مع النظام الرئاسي.
لن يفيد القول بأن النظام المطلوب سيوفّر الضمانات. فهذا لا يحدث إلا بوجود تقاليد ديمقراطية عريقة. ولا ضمانات في بلد يمكن التأثير فيه على القضاء وعلى الإدارة وعلى الهيئات الرقابية.

ومهما يكن من أمر، فالمهم هنا ليس الحقيقة. المهم هو تمثل الخاسر لها. والخاسر الذي يعتقد أن خسارته نهائية لا يقبل الخسارة بسهولة. ولن ينفع بعد ذلك الندم.

_______________

مقالات مشابهة