د. زكية بالناصر القعود
مقدمة
الهوية الوطنية ليست شيئا ثابتا ً لا يتبدل ولا يتطور ولا يتحور مع مرور الوقت ومع تبدل وتطور وتغيّر معتقدات وتوجهات السكان بل هي “كائن حي” يتأثر:
أولا، بمعتقدات الناس وشعورهم الوجداني بالإنتماء ثم باللغة والدين والثقافة السائدة بشكل عام.
ثانيا، بالإتجاهات السياسية والإيديولوجية المتنافسة والمختلفة.
ثالثا، بعملية إنصهار العوامل الديموغرافية والثقافية في إقليم جغرافي ما من خلال وسائل (المصاهرة) و(المجاورة) بين شرائح وفئات السكان ومن خلال آليات (الهجرة والإستيطان) و(الحروب والإستعمار)!
ونحن هنا لا نتحدث عن (الليبيين القدماء) أيام الرومان والإغريق عندما كان إسم (الليبيين) بهذا الوصف يشمل كل سكان شمال إفريقيا البيضاء ربما بإستثناء مصر الفرعونية.
بل نتحدث عن (الليبيين اليوم) (الليبيين في العصر الحديث لا في العصر القديم) فحتى إسم (الإثيوبيين) مثلا ً كان في العصور القديمة يشمل سكان أفريقيا السوداء كلهم ففي ذلك الزمن تم تقسيم الأفارقة على قسمين:
-
إما “ليبي” فهو من سكان شمال إفريقيا البيضاء
-
أو “أثيوبي” فهو من سكان أفريقيا السوداء.
أما اليوم فالهوية الليبية محصورة في الشعب الليبي الحالي وهو شعب مسلم يغلب عليه الطابع العربي في الإنتماء واللغة واللهجة الليبية الشعبية السائدة مع وجود بعض السكان الليبيين غير العرب كالليبيين الأمازيغ والتبو و(ربما الطوارق).
فالليبيون اليوم هم غير الليبيين بالأمس .. وسكان أمريكا اليوم غير سكان أمريكا منذ ألف عام وكذلك الحال في عدة دول وبلدان فالهوية الوطنية تتغير وتتطور ويُعاد تشكيلها من حيث (النسل والنسب) – أي من حيث “الهارد وير” وكذلك من حيث (الثقافة والمعتقدات) وكذلك الحال بالنسبة للهوية الأثيوبية اليوم مثلا ً فهي تعني سكان دولة أثيوبيا الحالية فقط ولا تشمل سكان أفريقيا السوداء كلهم كما كان عليه الحال في العهد الروماني والإغريقي القديم.
فالشاهد أن (الهوية) هي كائن حي متطور ومتحور عبر القرون.. وفي عصرنا هذا أصبحت (الوطنية) والإنتماء للوطن والدولة (الوطنية) جزء أساسي في هوية الناس والسكان!.
والليبيون اليوم هم أمة وطنية واحدة يغلب الطابع الإسلامي والعربي على شعور وثقافة الغالبية العظمى من أفرادها إلا أن المُكوّن الأمازيغي وكذلك الزنجي الإفريقي والصحراوي من حيث “العنصر” وكذلك من حيث “التأثير الثقافي” يظل حاضرا ً في (الشخصية الوطنية الليبية) المعاصرة ويظل – بالتالي – جزءا ً لا يتجزأ من هوية هذه الأمة الوطنية أي (الأمة الليبية) التي تم الإعلان عن ميلادها من ضمن الأمم المتحدة في العالم من خلال الإعلان عن ميلاد دولة ليبيا.. دولة الأمة الليبية الحديثة في يوم الإستقلال المجيد في 24 ديسمبر 1951.
هذه الدولة والهوية التي إختطفها الطاغية المباد لصالح مشروعات وهمية وكارثية غير مجدية لأربعة عقود من عمر (الأمة الليبية) ويحاول الليبيون المعاصرون اليوم من خلال ثورة 17 فبراير 2011 إستعادتها وتطويرها والمضي :بها نحو الرقي والتقدم . والتي تجسدت عبر التاريخ في عدة مكونات نذكر منها
أولا: المكون الديني الإسلامي واللغة العربية
لا يمكن أن نفهم شخصية ليبيا الحقيقية بدون أن نتعرف على مكون أساسى يجمع الجميع ألا وهو مكون “الإسلام“. فاللغه العربيه والإسلام وحدت وسيلة الإتصال بين جميع مكونات المجتمع الليبى،
فالاسلام منذ استقرارة في ليبيا، و رسوخة منذ بداية القرن الثاني للهجري، لم يصب بأي نكسة منذ ذلك الوقت، بفضل ما قام به بعض الخلفاء والولاة من جهد لنشر الدين واللغة بإرسال العلماء وفقهاء لتعليم السكان في ليبيا والمغرب العربي الدين الإسلامي واللغة العربية، مثل ما فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز و كذلك الهجرات العربية وقيام دويلات أسلامية وانتشار المساجد.
فالاسلام في ليبيا مظلة جمعت جميع مكونات المجتمع الليبي ( الامازيغ والطوارق والتبو ) واصبح الاسلام جزء من هويتهم وثقافتهم وعاداتهم، بالاضافة الي ان لغة القران الكريم (كتابهم المقدس) اللغة العربية، لغة مشتركة بين جميع المكونات للامة اليبية،
فالاسلام هو الهوية الكبرى التي لم تطمس الهويات الأخرى المحلية بل حافظت عليها واضافت اليها.
ثانيا: المكون الثقافي
من اهم معالم المكون الثقافي في ليبيا ( الروابط والزوايا ) ولها تاثير في تكوين بالاضافة الي الوافد الادبية (الشعر والنثر والقصة) والعلمية في العلوم العقلية والنقلية، الزوايا والرباطات، التي كانت نشأتهما بسيطة في مكان منعزل، بهدف العبادة او تلقي العلم او الدفاع عن تغور البلاد من الاعداء ،، ثم تحولت إلى مكون أساسي في التركيبة الاجتماعية، تساهم بقسط وافر في الجانب الديني والتعليمي والاجتماعي.
ويصف ابن مرزوق في الزاوية في المغرب بقوله: “والظاهر أن الزوايا عندنا بالمغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاجين من القاصدين”.
إجمالا، فالزاوية مكان منعزل كان يُستخدم، أولا مقرا لسكنى الشيخ الذي يلقن لأتباعه، بعيدا عن الضوضاء مبادئ طريقته، ولما كان هؤلاء الأتباع يأتون من بعيد، ويصعب عليهم الرجوع يوميا إلى أماكن استقرارهم، فإنهم يستقرون في الزاوية أو في الأماكن التي يبنونها حول الزاوية، ولا يقتصر الأمر على هؤلاء الأتباع، وإنما كذلك الأفراد أو الجماعات التي تتعهد بها الزاوية.
يبدو من خلال هذه التعاريف أن الزاوية ارتبطت بمجموعة من الأدوار الاجتماعية المحددة (التعبدي، الإيوائي، الإطعامي)، والتي جعلت منها عنصرا فاعلا في التشكيلة الاجتماعية والسياسية وعلاقتها بالمجتمع والسلطة، ومن الادوار التي يقوم بها الزوايا، الدور التعليمي والاجتماعي .
فقد كانت بالإضافة إلى وظيفتها الدينية معاهد لتعليم الشبان وتنوير العامة، وقد اشتهرت بعض الزوايا والخلوات الريفية حتى أصبحت محجة للزوار والطلبة، ومن ذلك زاوية الجغبوب التي تحولت معهد تعاليم العلوم الدينية.
وظاهرة التعليم في الزوايا ليست خاصة بالريف، ففي المدن أيضا كانت بعض الزوايا تقوم بدور ايجابي في نشر التعليم بجميع مستوياته. فالزاوية الاسمرية قد تحولت تدريجيا إلى مدرسة عليا أو معهد، و هذه الزاوية كان الطلبة يفدون اليها من جميع بلاد المغرب او افريقيا بالاضافة الي أبناء ليبيا من جميع الاقاليم.
ومن أشهر الذين درسوا بها في القرن العاشر كريم الدين البرموني و عمر بن حجا وأحمد بحر السماح و زاوية الحطاب نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الرحمن الحطاب الكبير (ت 945هـ ).
و كذلك زاوية شيخ االزروق في مدينة مصراتة، و من الزوايا التي لعبت دورا أساسيا في نشر التعليم في الاقاليم الشرقية والصحراء الليبية الزوايا السنوسية التي اسسها الامام محمد بن علي السنوسي.
لقد إختار هذا الشيخ الجليل ليبيا لأنه وجد فى قبائلها وشعبها تعطشاً كبيراً لدعوته ورسالته النبيله، ومن عبقرية هذا الرجل أنه إستوعب البيئة الليبية بكل إشكاليتها.
ولقد كان المقيمون في هذه الزوايا يتوافدون الي جانب التعلم والتعليم ونسخ الكتب وبعض الأعمال الصناعية والزراعية التي يتعيشون منها وكان من الصعب التميبز بين من هم من أصول عربية أو بربرية أو غيرهم نتيجة التداخل والتمازج الذي مر به المرابطون في تلك الزوايا او الاربطة.
للمرابطين كما يُعرف في طرابلس وفزان بصمات علي الارض الليبية فقبور الصالحين منهم أصبحت أضرحة أولياء وحولها تكنوت تكتلات سكانية أدت إلي استيطانهم بصفة دائمة مثل مدينة بنغازي نسبة الي سيدي غازي.
…
يتبع
_______________
المصدر: مدونة “كُنَّاشّة” للكاتبة