الفيتوري صالح السطي

ـ السياق الاجتماعي

في هذا الجانب يمكن أن نتطرق إلى تصنيف للأسر الليبية وانقسامها وهي:

الأسرة البدوية: أقدمها على الإطلاق والأسرة الليبية المعاصرة بأكملها تنتمي إليها بخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وهي تحمل قيم المجتمع البدوي، كقوة روح الجماعة والتماسك القبلي والاعتزاز بها، والتفرقة بين أدوار الكبار والصغار، والأدوار المحددة للرجل والمرأة.

ومن الناحية الاقتصادية تعيش الأسرة على الرعي والترحال، وتزاول شيئا من أعمال الزراعة البعلية، وللمرأة دور في المجتمع البدوي يتمثل في مشاركتها بالعمل في البيت، والآن تغير ذلك تحت تأثير عوامل التنمية والتحديث.

الأسرة الريفية: توجد في كل المناطق الزراعية، ومن أبرز معالمها الاجتماعية التماسك الاجتماعي والتفرقة بين أدوار الكبار والصغار والرجل والمرأة، ولكن هذه التفرقة أخف حدة مما هي عليه في الأسرة البدوية، والعمل في الزراعة واعتبار الأرض ذات قيمة اقتصادية واجتماعية وتدافع عنها بكل قوة وعنف، والارتباط الشديد بالأرض وتقسيم العمل.

الأسرة الحضرية: هي تختلف عن سابقاتها، وإن كانت تجمع في تركيبتها كل الخصائص والتوجهات البدوية والريفية، وينمو نموذج الأسرة الحضرية من عناصر متجانسة أحيانا ومتعارضة في إحيان أخرى، وهي في الواقع نموذج أسري غير مستقر وإن كان يحمل في طياته خصائص المجتمع العربي الليبي، ومن الناحية الاقتصادية فإن الأسر الحضرية تعتبر العمل قيمة اجتماعية ووسيلة للعيش في المدينة الأمر الذي يتطلب دخلا مرتفعا وهذا يتطلب عمل المرأة للمساهمة في رفع دخل الأسرة.

الأسرة الانتقالية: وهي تتكون من خلفيات الأسر الثلاث السابقة، وتتكون من مزيج غريب من الحياة الحضرية بمفهومها المعروف في الدول الصناعية والحياة الحضرية بمفهومها المعروف في الوطن العربي. ويقتضى هذا التنقل الدائم انماطا من السلوك الريفي والحضري ما يجعله يتصرف كريفي أحيانا وحضري في أحيان أخرى من دون الإنتماء إلى أي منهما، وتخرج المرأة للعمل.

الأسرة ذت الامتداد العالمي: وهي التي تكون فيها الزوجة أجنبية غالبا، وتنتمي في الأصل إلى ثقافة مختلفة عن ثقافة المجتمع العربي الليبي، غير أن المشكلة قد تكون في عدم إتقان الزوجة اللغة العربية، وهي تعتبر أقل الأسر من حيث العدد، وعموما الأسرة بشكل عام تكون أكثر تمسكا بالقيم والعادات في نوعها الأول وتقلّ كلما اتجهنا نحو الأعلى، بينما يكون هامش الحرية والمشاركة وإبداء الرأي أكثر.

ـ التنشئة الاجتماعية والسياسية للمجتمع

لدى العرب عامة والليبيين خاصة الميل إلى تقبل الحكم السلطوي والخضوع، وعدم الثورة عليه يرجع الثورة عليه يرجع ذلك إلى نمط التنشئة الاجتماعية السائدة، وخاصة داخل الأسرة، حيث يحظى رب الأسرة بالتقدير والاحترام والطاعة من جميع أفراد العائلة، وتشمل سلطاته استخدام مختلف أساليب العقاب بما في ذلك العقوبات البدنية ضد الأبناء أو الزوجة، وعلى ذلك يصبح غرس قيم الطاعة هو الهدف الأساسي لعملية التنشئة داخل الأسرة.

وإذا كانت العائلة هي التي تزرع بذور هذه الشخصية السلطوية في الطفل، فإن صفاتها تنمو وتدعم في المراحل اللاحقة التي يمر فيها الفرد، وتنتج ثقافة سياسية تؤمن بالتسلط والطاعة (ثقافة رضوخ).

إن عملية التنشئة التي يتعرض لها الفرد تغرس وتدعم قيمة الخضوع للسلطة وطاعتها، وعدم الميل إلى الثورة، وتولد الخوف من السلطة الحاكمة، ورغبة في تحاشيها وتفادي أثارها ومحاولة تهدئتها واستعطافها، وإطاعتها.

إن الفرد في مجتمعاتنا العربية عموما والليبية خصوصا ما زال أسيرا لقيم وعادات اجتماعية ترمي لخلق نوع من ثقافة الطاعة والامتثال والرضوخ الكامل، والخوف من التعبير، وسيادة روح الإتكالية، وعدم قبول النقد والحوار واحترام الرأي الآخر.

ـ المساواة بين الجنسين

تحتل ليبيا المرتبة 64 عالميا، وهذا يضعها في فئة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة مقارنة بالبلدان المجاورة، حسب مؤشر التنمية البشرية لعام 2012.

وتسجل ليبيا نقاطا منخفضة على الصعيد الدولي، في مؤشر عدم المساواة بين الجنسين ويرجع ذلك للعادات والتقاليد في المجتمع الليبي التي غالبا ما تضع حواجز أمام المرأة ومحاولة المساواة بين الجنسين، وإعطاء حقوقها الاجتماعية والسياسية.

ـ التكوين الاجتماعي الحديث لليبيا

يبلغ عدد سكان ليبيا أكثر من 6 مليون بينهم عشرات الألاف من غير المواطنين، وتكون الكثافة السكانية عالية في المناطق الساحلية في الشمال، وتشير بعض الدراسات بأن المجتمع الليبي شديد الإنتماء للقبيلة حيث يتكون المجتمع من عدد كبير من القبائل، حيث الغالبية الساحقة من العرب، والعربية هي اللغة الرسمية.

وهناك أقلية من المجتمع تتحدث لهجات أخرى كقبائل الأمازيغ التي تسكن في جبل نفوسة، وفي زوارة وغدامس وجالو.

ومن أهم القبائل غير العربية القبائل الأمازيغية وهم سكان البلاد الأصليين قبل الفتح الاسلامي، وتضم الطوارق في منطقة فزان وغات جنوبا، ولهم امتداد في وسط الصحراء الكبرى مما خلق نوع من التدفق البشري نحو لييبا وخاصة بعد اكتشاف النفط وفي أوقات الأزمات.

أما قبائل التبو فهم أصلا عرب اختلطوا بسكان بوافدين من جنوب الصحراء وكونوا نسلا يقطن معظمهم في منطقة مرزق. وهناك الأوجلية يقطنون في واحة أوجلة، وأيضا قبائل الهوسة في منطقة غات.

ساهمت الحالة الاقتصادية للبلاد و توفر سوق العمل وسهولة العيش لقدوم أعداد كبيرة من الأسر الافريقية بثقافات متعددة، وخاصة ممن كانت لهم معارف في ليبيا، وأدى ذلك إلى حدوث تغيير ديمغرافي في المناطق الحدودية الجنوبية.

وهناك جماعات قدمت لليبيا وامتزجت بالسكان، وهم الكريتية ذوو أصول اغريقية في برقة، وتركية وشراكسة وأوغلية، وهم من أبناء وأحفاد الجنود الإنكشارية في زمن الدولة العثمانية الذين تصاهروا مع عائلات عربية واستقروا في بعض المدن كـ مصراتة والزاوية وطرابلس ومناطق أخرى.

كل تلك الجوانب مجتمعة لا يمكن تجاهلها عند دراسة الثقافة السياسية للمجتمع الليبي.

ـ التعليم

تسجل ليبيا معدلات مرتفعة في قطاع التعليم، فهو مجاني وملزم لكل مراحل التعليم الأساسي، والثانوي، بالإضافة لدعم الدولة للتعليم الجامعي، وتقدر نسبة المتعلمين في المجتمع بـ أكثر من 80%، ونسبة طلاب التعليم الأساسي تزيد عن 90% والتعليم العالي تزيد عن 80%. بذلك تدنت نسبة الأمية إلى أقل من 10% وهذا كان مدعاة للنظام السياسي لاستغلال أحد أهم القنوات لزرع توجهاته وقيمه السياسية.

ـ السياق السياسي

بالإعلان الصادر عن الأمم المتحدة بأن ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة في العام 1951، تحت اسم المملكة الليبية، وفي عام 1969 تم قيام مجموعة من الضباط بانقلاب وتغيير نظام الحكم إلى نظام جمهوري، وتم تشكيل مجلس قيادة الثورة الذي رفع شعارات أيديولوجية (حرية ـ اشتراكية ـ وحدة) مسميا تنظيمه الاتحاد الاشتراكي، ثم بعد عامين تخلى عن ذلك النموذج، وتم إعلان الثورة الشعبية مما أدى إلى انشقاق داخل مجلس قيادة الثورة حول شروط من يدير مؤسسات الدولة باتجاهين:

الأول، اتجاه (ضرورة الكفاءة، والمهنية، والخبرة)

الثاني، والذي يتزعمه القذافي (الأيديولوجية والولاء السياسي)

مع هذا الانشقاق وعدم وضوح الرؤية لدى بعض الضباط استمر القذافي في القيادة، وفي عام 1977 صدر الكتاب الأخضر على أنه اشتراكية اسلامية تمزج بين الرأسمالية والماركسية، ويدعو لممارسة الحكم بالديمقراطية المباشرة (مؤتمرات تقرر ولجان شعبية تنفذ)

خلال هذه الفترة حدثت تقلبات سياسية وإدارية كثيرة ولم تستقر العملية السياسية في ليبيا على الصعيدين الداخلي والخارجي، مع تغير دائم في الشكل الإداري والسياسي للدولة.

وكانت لحالة عدم الاستقرار المستمرة أثارها السيئة على الثقافة السياسية للمجتمع، وبعد انتفاضة 2011 حدث عكس ما كانت عليه البلاد حيث تم تأسيس العديد من الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وفي أول عملية لانتخاب المؤتمر الوطني العام كانت نسبة المشاركة عالية جدا وأثرت الاتجاهات القبلية في عملية الاختيار نظرا لحداثة التجربة السياسية.

وبعدها سارت الأوضاع بمنحى آخر إذ سيطرت على الوضع تيارات أيديولوجية (ليبرالية وإسلامية)، وبدأ الصدام بينها دون وصول إلى توافق، وظهرت مؤشرات واضحة للتأثيرات القبلية والمصلحية والمناطقية على العملية السياسية، وتكونت مجموعات مسلحة لحماية كل فريق، وبدأت محاولات فرض الاراء على الأخرين بقوة السلاح، وحدثت نزاعات مسلحة إدت إلى تهجير كثير من المدن والقرى ونزوح أعداد أكبر.

***

د. الفيتوري صالح السطي ـ أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية ورئيس قسم العلوم السياسية ـ جامعة سرت

______________

المصدر: دراسة الثقافة السياسية والمجتمع الليبيـ مجلة شؤون اجتماعية ـ العدد 135 ـ (2017)

مقالات مشابهة