د. زكية بالناصر القعود

رابعا :المكون التاريخي

لما كان التاريخ مرآة الأمم ، يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها ، وتستلهم من خلاله مستقبلها، كان من الأهمية بمكان الاهتمام به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحاً، بحيث يكون نبراساً وهادياً لهم في حاضرهم ومستقبلهم . فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها، إذ به قوام الأمم ، تحيى بوجوده وتموت بانعدامه 

أنّ للتاريخ أهمية قصوى في حياة الأمم والشعوب, لذلك نجدها أولته رعايتها البالغة، وسعت إلى جمعه في شكل مدونات عن سير الأجداد، أو عبر المحافظة على الموروثات، أو من خلال القصص الشعبي، ليؤدي دوراً مهماً في تعبئة وجدان الناشئة، حتى ينشب الشبل ناسجا على منوال أجداده,محافظاً على قيم شعبه الموروثة كابراً عن كابر.

إن التاريخ الشفهي والمكتوب لنضال الشعب الليبي ينبئنا بأن الحفاظ على الوحدة الوطنية كان أمراً جوهرياً من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية. وتعد الملحمة الشعرية الشهيرة: “ما بي مرض غير حبس العقيلةنموذجاً كلاسيكياً لوصف المآسي والفظائع التي قاساها الليبيون إبان نظالهم البطولي ضد الاحتلال الإيطالي، ومع ذلك فهي تعبر عن معاني اللهفة للديار والهُوية المسلوبة والأمل في استعادتهما.

وكي نفهم ملامح التغيير التي توحي بها الثورة الحالية، على صعيد تبلور الهوية وتطورها، علينا أن نعود إلى الاستمرارية التاريخية من خلال مرحلة ما قبل الاستقلال والمرحلة الدستورية. ويفترض أن معنى من معاني الاستمرارية التاريخية مع هاتين المرحلتين الحاسمتين يعطينا ما نحسبه معنى للهوية الوطنية.

في الحقيقة لقد وجد الليبيون الفرصة للتعبير عن فهمهم المتميز لهذه الوحدة في ثلاث مراحل حاسمة خلال مائة السنة الأخيرة من تاريخهم، بدءاً من 1911 حتى 2011. وقد تجسد إدراكهم لمصيرهم المشترك بشكل واضح خلال ثلاثة عقود من النضال الموحد، سياسياً وعسكرياً، لتخليص بلادهم من حكم المحتل.

لقد جاء المقاتلون من كل مكان: من المناطق الريفية والحضرية على طول ساحل المتوسط، وكذلك من قبائل البادية وسكان الواحات في مناطق الداخل. فقد مثلت هذه القبائل مصادر حيوية لتزويد قضية التحرير بالرجال المقاتلين.

ثم مثل إعلان الاستقلال وإنشاء الملكية الدستورية سنة 1951 بداية مرحلة جديدة من التطور السياسي والاقتصادي. والأهم من ذلك أن الوحدة الوطنية قد ترسخت وتم المحافظة عليها من خلال درجة عالية من الوعي السياسي بالمصير المشترك لدى المواطنين جميعاً.

وانطلاقاً من وعي الليبيين بهويتهم كوحدة سياسية مستقلة، فقد توجوا تطورهم السياسي، في منتصف الستينيات، باستبدال نظام الحكم الفيدرالي (الذي كان يشمل الولايات الثلاث السابقة: طرابلس، برقة، فزان) بنظام دولة الوحدة.

أما الثورة الحالية فإنها تتحدث عن نفسها بكل وضوح. لقد شرع الليبيون في البحث من جديد عن الحرية واستعادة الهوية المفقودة والديمقراطية. فعلى الفور، منذ اللحظات الأولى لتفجر ثورة فبراير المجيدة، طغى على الجميع شوق عارم للراية الدستورية، رمز الاستقلال الوطني، فأخذت هذه الراية ترفرف في كل مكان، اعتزازاً، بلا أي شك، بتلك المرحلة التاريخية وبمنجزات الأجيال الماضية.

ولا شك أن بروز العلم وانتشاره بشكل عجيب في كل مكان، بأعداد هائلة وبكل الأحجام، يعد مؤشراً لا تخطئه العين لإحساسهم بوحدة ليبيا وهوية سكانها.

خامسا: المكون الحضاري

أن ننظر لتاريخنا كوحدة متكاملة وليس كأجزاء ممزقة هنا وهناك، ولا يمكن إعطاء معنى للتاريخ الليبى الا بهذه الكيفية. فإذا نظرنا إلى التاريخ الليبى بصورة كلية يمكن لنا أن نلاحظ تدفقاً ما لهذا التاريخ الطويل ،الذي كتب وفق ثلاث مدارس أو إتجاهات رئيسية.

الإتجاه الأول يقول: ان ليبيا كانت دائماً تعيش على هامش التاريخ وخارج دائرة الحضارة والتمدن ولم يكن لها أى دور حقيقى فى حركة التاريخ العالمى.

الإتجاه الثانى: يقول العكس تماماً مؤكدا ان ليبيا كانت دائماً فى صلب الحضارة الإنسانية، وما التراكمات الفينيقية والإغريقية والرومانية والإسلامية إلا تأكيداً لصحة هذا الإتجاه، وقد لعبت المدن الليبية القديمة دوراً أساسياً فى الحركة الفكرية والفلسفية والسياسية العالمية.

وأخيراً الإتجاه الثالث والذى قد يكون أقرب إلى الواقع والحقيقة يقول ان التاريخ الليبى هو تاريخ التذبذب بين الاتجاهيين الأول والثانى، بمعنى أنه فى بعض المراحل التاريخية فقد برز دور ليبيا القيادى كما هو الحال عندما حكم الأمازيغى شيشنق مصر، أو الدور الذى لعبه سبتيموس سيفروس فى الحضارة الرومانية، ومدارس الحكمة الشهيرة التى ظهرت فى الأكاديميات الليبية وخاصة فى مدينة قورينا وتأثرت بها المراكز الحضارية فى كل من مصر واثينا وروما، وفي العصر الحديث قادة حركة الاصلاح في العالم الاسلامي بقيادة المصلح الكبير محمد بت علي السنوسي الذي إستوعبت مأساة العالم الإسلامى .

فقد أتى هذا الرجل العظيم فى الوقت المناسب، وكان فعلاً رمزاً للتجديد والأصالة والإصلاح فى عصره فى بيئة متخلفه متنازعه ضاربة فى الفساد، وكان بحثه الصادق عن الحقيقه وترحاله المستمر من أجل العلم والحكمة مصدراً للإلهام والتقدير

ولم يكن السيد محمد بن على السنوسى مقلداً، بل كان ناقداً ومجدداً ومصلحاً ومجتهداً، ونجح نجاحاً باهراً فى تحويل هذه الصحراء الجرداء إلى مركزاً حضارياً إشعاعياً فى قلب الصحراء، وكل ليبى شريف عليه أن يفخر بهذه الحركة الرائدة فى ذلك الوقت.

لقد حول السيد محمد بن على السنوسى هذه البيئة القاسية التى اشتهرت بقطاع الطرق والتقاتل الشرس على الآبار والنخيل ومناطق النفوذ إلى بيئة متعاونة تحقق الأخوة الإسلاميه فى أسمى معانيها، فتحولت هذه الصحراء إلى واحات خضراء ومراكز علمية رائدة ومكتبات ثرية، وأصبحت الزوايا السنوسية اشبه بالجامعات والمنارات العلميه، ومراكز للتربيه الأخلاقية والروحيه.  

فقد كان لإخلاصه وحكمته وأخلاقياته وزهده قدوة لليبيين وكان مربياً من الطراز الأول، وتربى فى هذه الزوايا أجيال من القادة المخلصين الذين قاوموا بشراسة الغزو الإيطالى القادم من الشمال والغزو الفرنسى القادم من الجنوب، ولولا هذه الأكاديمية السنوسية لما ظهر شخص مثل عمر المختار وغيره من قادة ليبيا الأبطال، الذين قدموا المثال فى التضحيه والفداء من أجل ليبيا.

فقد إكتشف بنباهته وفطنته وذكائه الشديد أن هذه المؤسسات التى كان من المفروض أن تقود العالم الإسلامى قد تخلفت عن القيام بدورها القيادى، وانغلقت إلى حالة من الجمود الفكرى الإنحطاط

_______________

المصدر: مدونة كُنَّاشّةللكاتبة

مقالات مشابهة