الفيتوري صالح السطي
إن استمرار النظام السياسي لفترات طويلة دون وجود منافس أو بديل أو تداول سلمي للسلطة، وبلا تغيير في الأدوار السياسية يجعل من القيم السلبية تزداد وتتكرس حتى أصبحت خصائص توجه الدارس للثقافة السياسية في المجتمع الليبي ومنها:
أولا، انتشار قيم اللاديمقراطية
لا تعتبر السلبية واللامبالاة من السمات والقيم الأصيلة في المجتمع الليبي، فلقد انتشرت القيم السلبية من تجاهل الحرية والديمقراطية في النظم السياسية السابقة والفساد والدكتاتورية لإنها أكثر إفادة لهم ولحاشيتهم.
ويضاف إلى ذلك كيف أن الثقافة السياسية للمثقفين ووسائل الإعلام المختلفة تؤثر تأثيرا كبيرا في تكوين الرأي العام وتوجيهه في اتجاهات بعينها، وبالتالي نجد أن السببين الرئيسيين لمثل هذه السلبية واللامبالاة ما هي إلا نتيجة طبيعية لطول مدة الحكم الديكتاتوري وتغلغل ثقافة الفساد في مناحي الحياة كافة مع عدم كفاية الجهود المنظمة لمحاربة جميع صور الدكتاتورية المفسدة.
كما ظهر الفساد وتفشى في مؤسسات المجتمع والدولة المختلفة، ويصنف مؤشر مدركات الفساد الدول استنادا إلى مستوى الفساد في القطاع العام، وفي ليبيا تشير منظمة الشفافية الدولية لعام 2003 على أن ليبيا الأكثر فسادا بين الدول الأعضاء في الجامعة العربية وتحتل المرتبة 168 من أصل 183 بلدا.
ثانيا، غياب ثقافة المشاركة السياسية
تعتبر الأوضاع الاقتصادية والبطالة من أكثر العوامل التي تؤثر على المجتمع ومشاركته السياسية، فغياب ثقافة المشاركة السياسية مع قلة وجود مؤسسات الديمقراطية الحقيقية والفاعلة، وعدم صدق ووضوح الرموز السياسية للنظام السياسي، وتلاحق الأكاذيب والاتهامات ضد الناشطين السياسيين، يهز الصورة النمطية للمسؤولين ويجعلها سيئة، وخاصة في وجود التطور الهائل لوسائل الاتصال ومنها وسائل التواصل الاجتماعي.
فنجد أنه من كثرة ما يردد حول الناشطين من حقائق وشائعات تسعى بالاساس إلى تدمير مصداقيتهم لدى العامة ومن ثم عدم مقدرتهم على الاستمرار في مواجهة النظام وكشف مساوئة.
وهذه الممارسات من أهم الأسباب التي تجعل العامة أقل رغبة في الانخراط في السياسية والابتعاد عنها أو متابعتها من بعيد، ولقد ازداد هذا الشعور أكثر من ازدياد معدل الفساد السياسي وعدم وجود مؤسسات سياسية حازمة (الأحزاب)، لذلك يجد الأفراد أنفسهم محاطون بأسباب تدفعهم أكثر نحو العزوف وعدم المشاركة في العملية السياسية، اقتناعا منهم بعدم مقدرتهم على مواجهة مساوئ النظام القائم، مما يزيد من استيائهم وإحساسهم بالظلم، ويشعر المواطنين بأنهم ليس لديهم القدرة على التأثير على السياسية، ولا يشعرون بأن النظام السياسي سوق يستجيب لمطالبهم والحتياجاتهم.
ثالثا، انقسام المجتمع
انقسام المجتمع في تعريف الهوية، فبعضه يستخدم الهوية الوطنية والبعض الآخر يستخدم الهوية الدينية، وذلك يؤثر على قيمهم السياسية والتي تنقسم إلى دولة مدنية ودولة اسلامية، وكل منهما له جانب من الناحية النظرية والتطبيقية.
فالجانب المدني يدعو للتعددية السياسية والانتخابات واتباع بنود الدستور وأحزاب حاكمة وأخرى معارضة، ولكن الدولة الاسلامية بجانبها المتشدد لا تعترف بديمقراطية الانتخاب فهي تؤمن بالإجماع والمبايعة من أصحاب الحل والعقد وتبنى على أساس الاجتهاد، وتتم عن طريق المشورة والإجماع.
وهناك انقسام للمجتمع من نوع أخر وهو انقسام على أساس مكوناته على الرغم من قلة تلك المكونات، فمجرد ظهور الحراك السياسي في 2011 وما تبعه من أحداث ظهرت أصوات من الأمازيغ والتبو تنادي بهويتها وتتطالب بأن يتم الاعتراف بلغتهم وثقافتهم ووضع بنود مناسبة في الدستور.
وتم انضمامها إلى المكون الأمازيغي العالمي والذي ينادي بتكوين دولة مستقلة للأمازيغ على غرار الأكراد في سوريا وشمال العراق، وهناك مجموعات أخرى تطالب بتقسيم ليبيا على أساس فيدرالي والرجوع للأقاليم الثلاثة طرابلس وبرقة وفزان.
رابعا، انتشار مشاعر الخوف والسلبية
ترسبت مشاعر الخوف في نفوس المواطنين، فأصبحوا عاجزين عن المطالبة بحقوقهم والوقوف في وجه الظلم خوفا من بطش السلطة والشرطة وغيرهما من المؤسسات الأمنية، وتطور الأمور لتصبح السلبية إحدى القيم السائدة جنبا إلى جنب مع الخوف، وذلك أفقد المواطنين شعورهم بالوطن وبقيت قلة قليلة تهتم بالشأن العام ويحاولون أن يكون لهم سلوكهم إيجابيا.
خامسا، فقدان الشعور بقيمة الحقوق السياسية
استمرار الحكم الفردي والشمولي لفترة طويلة أفقد المجتمع الشعور بقيمة حقوقهم السياسية، حيث أصبحوا ينظرون إليها إما أنها ميزة لفئات معينة من الشعب، خاصة تلك القريبة من السلطة أو أن الحكم وشؤون الدولة لقلة قليلة فيتم توزيع الأدوار بينهم سواء المناصب السيادية كالوزارات أو الممثلين للدولة، هم وحدهم الذين يختصون بجوانب الحكم والسياسة، مما جعل نظرة المجتمع إليهم على أساس أنهم خُلقوا ليحكموا، وغيرهم خلقوا ليستمعوا وينفذوا الأوامر، وعلى الرغم من وعي المجتمع بأن التنازل عن الحقوق السياسية إنما هو تنازل عن أحد الحقوق الأصيلة للبشر ألا وهي المحافظة على حريتهم وكرامتهم.
وكل تلك القيم التي أفرزها غياب الديمقراطية قد أدت إلى ظهور بعض القيم التي أدت إلى المزيد من التدهور في المجتمع مثل النزعة للقيادة المنفردة، وغياب روح الفريق والعمل الجماعي مما أضعف الإنتاج والتماسك المجتمعي.
سادسا، غياب الثقة
انتشار النفاق وتغليب المصلحة الشخصية على المصلحة العامة أدى بالضرورة إلى غياب الثقة حتى بين المواطنين أنفسهم، وتقوم الحكومات باتباع سياسة فرق تسد لتقسيم المجتمع وضمان عدم تجمع وتوافق المواطنين ضد الحكم التسلطي وذلك ساعد على ازدياد عدم الثقة بين المواطنين، بالاضافة إلى انخفاض مستويات التواصل والتفاعل الاجتماعي في الجماعات والنقابات رغم انتماء الأعضاء لنفس الشريحة الاجتماعية. فمن خلال التفاعل والثقة يشعر المواطنين بالمصلحة المشتركة وتمنو لديهم الرغية في العمل معا من أجل تحقيق تلك المصلحة.
سابعا، غياب الحرية
سجلت السلطة السياسية أعلى المستويات لقمع الفرد والمجتمع ووضعت ممارسات قاهرة سالبة للحرية معادية لها، بل ومتعدية على أبسط مظاهرها، وغياب المساواة بين المواطنين وتصنيفهم على مبدأ الولاء والعمالة للسلطة السياسية كان واحدا من مظاهر ازدراء الاستبداد للحرية والإنسان.
فالمساواة واحدة من تجليات الحرية، وكلما زاد الوعي الاجتماعي بها ترسخت مستويات إدراك الفرد ككائن اجتماعي بحريته، وكلما ارتقت القوانين والأنظمة نحو تحقيق مساواة أكمل وأشمل، تحققت الحرية في المجتمع، فإزالة كل الفوارق التي تصنف الناس تجعل من المساواة مسألة حيوية في مفهوم الحرية. لقد كان إدراك مجتمعات منغلقة على نفسها وفقدان الحرية دافعا لرفع الحرية رمزا.
والقناعة برسوخ ممارسات سلطوية جبرية يعمق الإحساس الواعي بتقييد الممارسة الطبيعية للفرد والجماعة بما يتناقض مع إفساح المجال لإرادته الحرة بالتصرف وفق قناعات وجدانية دون قيود سياسية وقانونية تنصب على إخضاع الفرد والمجتمع لإرادة سلطة طاغية تحكم الناس بالقوة الغاشمة. ذلك الإدراك عمّق الوعي المجتمعي لمجتمعات خاضعة للإستبداد بفقدان الحرية والكرامة.
ثامنا، غياب الإرادة السياسية
إن المتحكم في جدلية الإصلاح ووتيرته ومداه هو الحاكم، وكان من الواضح غياب الإرادة السياسية للتغيير الديقراطي الفعلي، حيث لم تتم أفعال توحي حقيقة بالتغيير الديمقراطي وتمثل قوى الإصلاح، التي من مصلحتها أن يتم التحول الديمقرطي.
تاسعا، الاستئثار بالسلطة والثروة
أي إصلاح ديمقراطي يعني وجود نظام أو آليات للرقابة والمحاسبة مثل البرلمان، والقضاء المستقل، والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وهذه المؤسسات لم توجد في ليبيا خلال عقود من الزمن، وكانت تعتبر من المحظورات ويعاقب القانون عليها وفق التشريعات (1977-2011).
وكان لتجريم الأحزاب ومنع الانتخابات دورا كبيرا في ترسيخ ثقافة السيطرة والتسلط داخل المجتمع الليبي.
عاشرا، غياب دور التجار ورجال الأعمال
لرجال الأعمال والاقتصاديين على صعيد دولي أثرهم على النظام القائم بما يحقق مصالحهم وتحقيق الصالح العام والاصلاح السياسي.
وفي ليبيا، الكثير من الرجال المسيطرون على الاقتصاد من تجار ورجال الأعمال (الطبقة الرأسمالية) لا تلعبون أي دور من أجل التحول لثقافة الحوار والمشاركة السياسية والديمقراطية والأصلاح الحقيقي، وكان هدفهم دائما مع الاستمرار في تأمين وتحقيق مصالحهم ومن خلال التحالف مع الحكومة والمؤسسات التابعة لها لتكوين حلقات الفساد الإداري والمالي والابتعاد عن الجانب السياسي، على حساب مصالح الفئات الأخرى في الجتمع.
ظهر ذلك جليا من موقفهم تجاه استراتيجية سوق العمل والخصخصة وتكوين مشاريع وهمية وصرف ميزانيات كبيرة خلال عقود من الزمن.
أما مرحلة ليبيا بعد 2011، وفي فترة ثورة فبراير وأثناء الصراع على السلطة والثروة، برزت أدوار جيدة لبعض التجار ورجال الأعمال في دعم شباب الانتفاضة ومشاركة الناس في تحقيق هدف التخلص من زمن الاستبداد والدكتاتورية.
وخلال العشرية الماضية لم يكن هناك دور حقيقي وفاعل لرجال الأعمال بل استمرت الحالة التي كانت قبل 2011، بالتركيز على تحقيق المصالح الشخصية بعيدا عن الوطن والمواطن، ولم يكن هناك وجود لأي دور واضح إو عمليات ضغط على الحكومات الانتقالية من أجل الإصلاح السياسي.
الخلاصة
إن المحصلة الثقافية للأفراد تتكون بشكل تراكمي وعبر تجميع القيم والعادات والتقاليد والمعارف والوعي بتوجهات المجتمع، فالمجتمع يكون متمتعا بثقافة سياسية عالية إذا أدرك تماما أن المسؤولية القصوى الملقاة على عاتق النظام السياسي كونه مجرد منسق للحياة المدنية بين أفراد المجتمع، ومؤيدا للحقوق المكتسبة للفرد والمجتمع وفق معايير العدل والمساواة.
أما إذا تراكم في المجتمع إرث عقيم من القيم البالية والتي تحدد علاقة التبعية المطلقة للنظام السياسي، والتي من شأنها تساهم في تجهيل المواطن بالمسؤولية المناطة بذلك النظام، فأن الثقافة السياسية للمجتمع ستكون في غاية الضعف.
فالأنظمة السياسية عموما تقوم بإعادة تشكيل الحقائق من أجل تقديمها للاستهلاك الجماهيري وتلك هي مهمة مديري الثقافة السياسية في كل المجتمعات، فغالبا ما كان النظام السياسي في ليبيا يسعى لنشر وترسيخ ثقافة سياسية محددة من خلال أدلجة النخب وإبقاء عامة الشعب في حالة سياسية مبعثرة، وذلك يحقق للنظام السياسي نوع من الأستقرار الداخلي المزيف.
***
د. الفيتوري صالح السطي ـ أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية ورئيس قسم العلوم السياسية ـ جامعة سرت
______________
المصدر: دراسة “الثقافة السياسية والمجتمع الليبي” ـ مجلة شؤون اجتماعية ـ العدد 135 ـ (2017)