د. هاني محمد مفتاح أمبارك
على الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على سقوط نظام القذافي، إلا أن الدولة الليبية لا تزال في أزمة سياسية متداخلة الأطراف، أضعفت من بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وجعلتها في مسار الدول “الفاشلة” “الهشة” حيث لا تزال الدولة الليبية تمر بمراحل مختلفة من الانتقال السياسي، بتبعاته الأمنية والاقتصادية المختلفة.
هذا الانتقال السياسي اعتراه الفشل في كل العمليات السياسية الانتقالية، مما أدى إلى تخبّط البلاد في حالة من الفوضى، وصلت إلى الدخول في حرب أهلية فتحت المجال للتدخل الخارجي، الذي جعل ليبيا ساحة لتحقيق المصالح للقوى الاقليمية والعالمية.
لدى عمليات الانتقال الديمقراطي في ليبيا عوائق وصعوبات في ست تحديات رئيسية دون الجزم بحصرها وهي:
-
الثقافة السياسية الهشة
-
وضعف مؤسسات الدولة
-
والأوضاع الاقتصادية المتردية
-
وضعف العوامل الاجتماعية المفرقة
-
وهشاشة المجتمع المدني
-
والفشل في التوافق على قواعد العملية السياسية والسياسات العامة والتدخل الأجنبي.
ولعل التشخيص المناسب لتفسير الحالة التي تعيشها ليبيا بعد الثورة بكل ما حوته من تجليات عدم استقرار وتعثر لبناء النظام السياسي والدولة يكمن في معضلة تفتت القوة بالمعنى السلبي لا الإيجابي، وانتقالها من الدولة إلى فواعل متعددة سياسية ودينية ومناطقية وقبلية لم تجد في الأطر المؤسسية للسلطة الانتقالية ما يحقق مصالحها، وبالتالي عملت على حيازة القوة عبر امتلاك ظهير مسلح تحول إلى فاعل رئيس في التفاعلات الجارية في البلاد.
كل ذلك يحدث في وقت لا توجد فيه أعراف ديمقراطية أو برلمانية راسخة في البلاد تستطيع من خلالها التحاكم لعملية سياسية ناضجة بها يمكن أن تمضي البلاد إلى الأمام، الأمر الذي يمثل تحديا خطيرا في ظل قلق حقيقي أن تؤدي كل تلك الحالة إلى إفساد العملية الديمقراطية برمتها، يصاحبه شك بأن الأطراف الخارجية تعمدت ذلك لكي يصبح لتدخلها قبولا شعبيا في البلاد.
لقد شكلت ليبيا بعد 2011 استثناء في وضعها الداخلي، بفعل معطياتها المضطربة التي تتراوح ما بين انتشار الأسلحة، واشتباكات ذات طابع قبلي، وميليشيات ثورية ترفض الدخول تحت سلطة الدولة التي تعاني من هشاشة سياسية وأمنية، في ظل عجز المجلس الوطني الانتقالي عن تقديم نموذج نظام سياسي مستقر، يجمع تحت مظلته جميع الأطياف السياسية التي شاركت في إسقاط القذافي.
كانت إسهامات القوى الحزبية والدينية في ليبيا شبه معدومة، إذ لم تعرف الحالة الليبية أية تنظيمات سياسية وأيديولوجية مستقرة، وكان المجتمع الليبي المعروف بانقساماته على أساس قبلي هو الذي يدير الثورة وينقلها من منطقة إلى أخرى.
في ليبيا وإن كان هناك قناعة بالديمقراطية من القادة والسياسيين الذين يتبنونها استراتيجيا والتزاما وتعهدا وطنيا، لكن ذلك لا يعنى وجود توافقات أو إجماع حول الطريقة المناسبة لبناء تأسيس هذه الديمقراطية، بدأ ذلك ظاهرا في الخلافات التي برزت أثناء المراحل الانتقالية حيث اشتدت المنافسة حول كل ما يتعلق بشكل الحكومة والدستور والأحزاب وحقوق الجماعات وغيرها، في ظل عملية شملت ليست فقط القوى الحزبية والمدنية المنافسة، بل أيضا قوى تتمكن من أشكال مختلفة من القوة كالسلاح، وسط حالة من الانقسام السياسي والاستقطاب الأيديولوجي بين النخب السياسية والفكرية.
من جهة أخرى تعد القبيلة لاعبا أساسيا في الصراع الليبي ومحددا من محددات الانتقال الديمقراطي في هذا البلد الذي يعد الصراع السياسي فيه صراعا قبليا في حقيقته وجوهره، وإن الجبهتين المتصارعتين معسكر الكرامة والمعسكر المقابل له من التيار الديني ما هما إلا واجهات سياسية وعسكرية للقبائل الليبية التي ينخرط أبنائها بالأساس في الصراعات المسلحة بين الحين والآخر في ليبيا.
ومن ثمة فإن تسوية الأزمة السياسية فيها يتوقف في جزء كبير منها على تسوية الخلافات بين القبائل الليبية، وإيجاد صيغة مناسبة لتوزيع المناصب السياسية والأمنية فيما بينها، وهو ما سيرغم القوى السياسية المختلفة في النهاية على القبول بهذه الصيغة خوفا من فقدان الدعم القبلي لها.
من المفاهيم المرتبطة بالتحول الديمقراطي الوعي السياسي، ولقد ركز الفكر السياسي الإنساني على أهمية وجود الوعي السياسي في بناء الانظمة الديمقراطية، وهذا ما أشار إليه المفكرين قديما وحديثا، ولقد ساهم النظام السابق مساهمة كبيرة في اجتثات كل نبتة بل حرق كل تربة تصلح لإزدهار الوعي لدى الشعب فضلا عن قبوله أو تسامحه لرؤية نموا لهذا الوعي بين أبناء الشعب.
يأتي هذا في وقت يوصف فيه المجتمع الليبي حتى وقت قريب ضمن المجتمعات القبلية الرعوية غير المستقرة، وحتى بعد اكتشاف النفط لم تتغير المفاهيم كثيرا، ولقد أثرت البيئة الجغرافية والتي أغلبها الصحراوية على المجتمع بتموين تجمعات في الاقامة والسفر والترحال فلا يمكن التنقل بصورة فردية إلا ما ندر، وتلك التجمعات تتم التحركات فيها بالسمع والطاعة الكاملة لشيوخ القبائل وعدم معارضتهم.
وهذا النمط كرس لظهور قيم واتجاهات الولاء والطاعة العمياء والخضوع لسلطة القبيلة وتنفيذ ما يصدر عنها دون إبداء الرأي أو المعارضة.
يكفي التدليل على فساد المنظومة القيمية الأساسية في الوعي السياسي المحلي والجمعي لدى الليبيين هو طاعتهم لبعض التوجهات السياسية كما رصدت في المسح الاشمل لأراء الليبيين في القيم دلت النتائج لأحد الدراسات المختصة بأن الطاعة والانصياع تحظى باهتمام وأهمية كبيرة لدي الليبيين، وأنها قيمية لا
يستهان بها في الشأن السياسي وغالبتهم سعى إلى غرسها في أبنائهم، وهذا الأمر والانصياع لا وجود له في الأنظمة الديمقراطية، وقد اتضح من تفسير التفاوت في المستويات أن البلدان الراسخة في الديمقراطية تمتلك ثقافة المشاركة التي تغرس في المواطن الإحساس بقدرته على التأثر في العملية السياسية بينما المواطن الليبي كغيره من دول الربيع العربي يشعر بعدم قدرته على ذلك، وأنه لا فائدة من مشاركته في الإنتقال نحو نظام ديمقراطي.
***
د. هاني محمد مفتاح أمبارك ـ محاضر وباحث في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة مصراته
_________________
المصدر: دراسة للكاتب بعنوان (الدبلوماسية المغربية ودورها في الانتقال الديمقراطي في ليبيا بين الإنجازات والتحديات) نشرت في مجلة اتجاهات سياسية ـ المجلد 8 ـ العدد 29 ـ ديسمبر 2024