د. الكوني عبودة

عنوان الاطروحة التي نوقشت بتاریخ 7 يناير 2019 بجامعة تونس المنار بالجمھوریة التونسیة من لجنة خماسیة برئاسة الاستاذ الدكتور محمد رضا بن حماد وعضویة الاستاذ محمد شفیق صرصارالذي اشرف على العمل وأجیزت الاطروحة بتقدیر مشرف جدا ـ موضوع الاطروحة ـ دون القید المضاف ـ لایتضمن أي خصوصیة، لان الرقابة الدستوریة في لیبیا من الموضوعات التي حظیت باھتمام الفقه منذ عدة عقود.

ولعل من اوائل الاعمال التي نشرت مقالة یحیى الجمیل الموسومة : “الرقابة على دستوریة القوانین في المملكة اللیبیة مجلة القانون والاقتصاد، العدد الأول (1964).

نعم عرفت ھذه الرقابة عدة تطورات منذ إقرارھا بدستور 1951:

ـ المثل البارز كان عام 1964 حیث الغي الاساس الدستوري لهذه الرقابة

ـ تبعه الغاء ھذه الرقابة عام 1982 بصدور القانون رقم 6 باعادة تنظیم المحكمة العلیا

وعلى الرغم من ان المشرع أجبر على فتح الاختصاص مجددا بهذه الرقابة للمحكمة العلیا عام 1994 فانها بقیت مجمدة واقعیا الى ان صدر قرار الجمعیة العمومیة للمحكمة العلیا رقم 283 لسنة 2004 بتحدید اجراءات الطعون الدستوریة بحسبان ان القانون فوّض اللائحة الداخلیة للمحكمة في ذلك .!

العامل المتمیز في مسار هذه الرقابة كانت انتفاضة 17 فبرایر2011 التي وصفها الاعلان الدستوري الصادر في 3 أغسطس 2011 في دیباجته بانها ثورة، هذا الاعلان المؤقت اراد له المجلس الوطني الانتقالي ان یكوناساسا للحكم في المرحلة الانتقالیة” .

غیر خاف ان هذا الاعلان لم یكرس صراحة رقابة دستوریة القوانین، إلا ان روح الاعلان تقتضي وجودها بتأكیده على:

ـ أن الدولة تصون حقوق الانسان وحریاته الاساسیة ” (مادة 7)

ـ وأن حق التقاضي مكفول وأن تحصین القرارات الاداریة من رقابة القضاء محظور (مادة 33).

واستمراریة العمل بالتشریعات النافذة التي لاتتعارض مع الاعلان (مادة 35) .

مقتضى ذلك أن المرحلة الانتقالیة التي بدأت مع نفاذ الاعلان الدستوري المؤقت ولم تنته حتى تاریخ هذا التقدیم مرهونة بتحقق تحول دیمقراطي نَسجت المادة 30 من الاعلان خیوطه من خلال مسار یُفترض أن ینتهي بانتخابات حرة ونزیهة وفق دستور تضعه هیئة منتخبة ویطرح للاستفتاء علیه من الشعب.

لكن هذا التحول تمیّز بتحدیات مختلفة داخلیة وخارجیة جعلت المسار اللیبي عسیرا تجلّت ابرز مظاهره في انقسام سیاسي وعسكري انعكست نتائجه على سلطة قضائیة حاولت المحافظة على استقلالها.

لكل ذلك كان اختیار الاستاذ خلیفة فرج محمد عاشور عنوان اطروحته رقابة الدستوریة في المرحلة الانتقالیة في لیبیا: فهي رقابة تتعلق بمسار الانتقال الديمقراطي ولیس لحمایة الحقوق والحریات المناط التقلیدي للرقابة.

ومن هنا كانت الحاجة الى طرح هذا الموضوع لمقاربة اعمق واشمل لفكرة الرقابة الدستوریة في المرحلة الانتقالیة من خلال ضبط أوجه القصور في التأسیس للرقابة الداخلیة والدولیة لما یهیئ فرص نجاح الانتقال الديمقراطي“.

لهذا جاء اختیار الباحث للمنھج التحلیلي بحسبانه منهجا اساسیا یمكنه من تحلیل النصوص المؤسسة للرقابة في المرحلة الانتقالیة واوجه قصورھا. وإنعكاس كل تلك الاوجه على آلاحكام الدستوریة التي صدرت، أو حالت دون صدورها، ومدى تأثیراتها السلبیة والایجابیة في دعم ومساندة الانتقال وحمایة الاحكام التي نص علیها الاعلان الدستوري للوصول في النهایة الى مدى تأثیرها إجمالا على مسار الانتقال..”.

ولكنه یضیف منهجین وهما:

ـ منهج المقارنة لمعرفة الكیفیة التي تعاملت بها الدول المستقرة او الدول في المراحل الانتقالیة

ـ ومنھج دراسة الحالة وذلك لمعرفة اسباب التعثر لمرحلة تحوّل سیاسي كان بالامكان ان تكون في شكل انتقال سهل في ظل رقابة فاعلة وصارمة دون إغفال للأسباب الداخلیة والدولیة الاخرى .

لذا كان طرح إشكالیة الاطروحة: لماذا لم تساهم الرقابة الدستوریة في منع تعثر الانتقال الدیمقراطي في لیبیا؟

وللاجابة على ذلك خصص الباحث الجزء الاول من اطروحته لاضطراب مصادر المشروعیة، اما الجزء الثاني فكان دوره قصور آلیات الرقابة سواء مایتعلق بقصور الهیكل المختص (أي القضاء العادي) او تعطل السلطات الرقابیة في مرحلة الانتقال ـ ومن ابرز مظاھر ذلك عدم اصدار احكام دستوریة بعد 6 نوفمبر 2014 ، ثم تجمید الجمعیة العمومیة للمحكمة العلیا الاختصاص (بالرقابة) رقم 7 لسنة 2016 !

منهجیة الباحث المتمیزة قادته لتأكید أن انتفاضات 2011 باختلاف صورھا وأشكالها وإن اتحدت في ھدف المطالبة بالانتقال الدیمقراطي، الا أنها لم تدرك ان التحول الدیمقراطي المنشود لن یتم إلا من خلال المرور بمسار انتقالي مضطرب الاحداث عبر رحلة محفوفة بالرهانات والتحدیات والمعوقات تقل في مخاطرها في عرقلة المسار أو تزید عكسیا وطردیا كلما ازداد الوعي ونجح التأسیس“.

ھذا التسلیم بارتباط عملیة الانتقال بعاملي الوعي والتأسیسدفع الباحث الى تقریر ان افتقاد عامل الوعي لعدم القدرة على مسابقة الزمن بوصفه العنصر الاساسي في رقیه وتكوینه یوجب عدم التفریط في عملیة التأسیسللمسار الانتقالي بالعمل على تهیئة أفضل السبل والوسائل التي تكفل نظریا على الاقل نجاح وسلامة ھذا المسار، القائم على فكرة إسقاط منظومة قانونیة ومؤسساتیة سابقة والتأسیس لمنظومة جدیدة في إطار حركة تفاعلیة بین مفهومي الانتقال والدستور.

هذا الدستور الانتقالي، الذي یعد أول تجلیات تلك الحركة، یحدد الخارطة الانتقالیة الكفیلة برسم ملامح التشكیل الجدید للمؤسسات وخلق مرجعیة دستوریة قائمة على مبدأي المشروعیة وسیادة القانون.

هذه النظرة النموذجیة لعملیة التأسیس سرعان ماتبرز عیوبها لأن دروس التاریخ علمتنا ان الدساتیر، على اهمیتهالتكریس سیادة الشعوب وضمان حقوقه إلا انها لیست كافیة لوحدها تبقى شعارات فاقدة لجوهرها ومضمونهافي ظل غیاب منظومة تكفل حمایتها وتضمن تطبیقها.

ألم یقل مونتسكیو:”لقد اثبتت التجارب الابدیة إن كل إنسان یتمتع بسلطة یسیىء استخدامها إذ یتمادى في هذا الأستعمال حتى یجد حدودا توقفه“!

بناء على ماسبق، یدعو الباحث اللیبیین للنهوض والتحرك لدفع قافلة التحول الدیمقراطي خلال إعادة رسم ملامح المرحلة الانتقالیة من جدید عبر میثاق او إعلان او تعدیل دستوري ثامن أو عاشر لافرق بینهما یتضمنان من الاحكام التي هي كفیلة بتكملة المسار تحت حمایة ورقابة فاعلة بدعم شعبي لقضاء دستوري خلاق ولاتنظر الى الخلف بما فیه عثرات وآلام” .

إن التوافق الذي یطالب به الباحث یتطلب اعتماد وثیقة دستوریة واحدة جوهرها مبدأ سمو الدستور وذلك لضمان استقرار مصادر المشروعیة الغائبة؛ هذة الوثیقة هدفها اكمال المرحلة الانتقالیة من خلال محكمة علیا جدیدة بالنظر الى تعدیل اختصاصها لیتسع لكل مایكفل ضبط أي انتهاك للمسار الانتقالي وهو ما یفرض في رأي الباحث رفع كفاءة مستشاري هذه المحكمة والاهتمام بهم .

لكن الصورة لم تكتمل لأن نجاح المسار یقتضي تعاون المجلس الأعلى للقضاء، الممثل للسلطة القضائیة، بالمساهمة في دفع عجلة التحول ؛ كما ان الجهات في شرق البلاد وغربھا التي تمارس مظاھر السلطة التشریعیة والتنفیذیة مطالبة بالتوقف عن اصدار تشریعات خارج مقتضیات المرحلة لغرض تفادي الاضرار التي قد تترتب على الحكم بعدم دستوریتها.

ویوصي الباحث المحكمة العلیا بالبحث في دعوى التفسیر المرفوعة امامها بشأن الطعن رقم 17 بحل مجلس النواب.

ھذا غیض من فیض لایغني بالتأكید عن السفر عبر صفحات الاطروحة والتمتع بأسلوب الباحث المتمیز ونتاج ملكته التي اكتشفتها عند إشرافى على رسالة الماجستیر. فالباحث یملك زمام المبادرة والقدرة على التحلیل والحسم اللازمین لأصالة البحث.

ولایجب ان ننسى خصلة أخرى من خصاله البراقة وهي التواضع الجم ولعل خیر مثل ماختم به اطروحته عندما أكد نأمل ان یفتح ھذا البحث الافاق لبحوث علمیة أخرى تعني بفكرة القضاء الدستوري الخلاقة في منظور جدید متطور وكذلك بحث حالة ضعف المؤسسات والمحاكم الدولیة في حمایة الدیمقراطیة وبحث أثر التدخلات الأجنبیة في عرقلة تحولات دول الربیع العربي، وكذلك بحث اسباب ضعف الرقابة غیر القضائیة

ھذه الأمنیة تجسد حدس الباحث في أن الواقع اللیبي بعد 2011 أفرز ویفرز ماعجز الشخص العادي عن توقعه، فالتوافق اللازم لتحقیق المصالحة الوطنیة وإنهاء مسار التحول لم یتحقق ومختلف السلطات والقضائیة منھا تساھم في عرقلة التحول.

ومن مظاھر ذلك ماحدث من فصل المحكمة العلیا عن محیطها الطبیعي – القضاء واستحداث محكمة دستوریة دون اساس دستوري وعرقلة عملیة الاستفتاء هي شواهد تؤكد ان المسار الانتقالي یفترض تغلیب مصلحة الوطن وعدم الاستقواء بالاجنبي، ومكافحة الفساد.

والله المستعان.

***

أ.د. الكوني علي أعبوده، أستاذ شرف ـ جامعة طرابلس

____________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات مشابهة