د. هاني محمد مفتاح أمبارك

تعتبر أزمة عدم صياغة الدستور والاتفاق عليه من الأزمات المزمنة التي يعاني منها المجتمع والدولة في ليبيا، فغياب دستور ينظم الدولة فهو من الميراث الثقيل الذي ورثه الليبيون من سلطة حكمت البلاد لمدة 42 عام، ولهذا صاحب الجدل والتداعيات السلبية استحقاق دستور ينظم الحياة السياسية في ليبيا طيلة 13 سنة من عمر الثورة، فلم يستطع الليبيون الانتقال من حالة الفوضى والثورة إلى حالة الدستور والدولة والانتهاء من المراحل الانتقالية التي سيطرت على المشهد الليبي إلى يومنا هذا.

الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي بدأت ولايتها القانونية منذ انتخابها في أبريل 2014، بتمثيل انتخابي متساوي بين أقاليم ليبيا الثلاث بواقع 20 عن كل إقليم، وهو يخالف المتعارف عليه في صياغة الدساتير من حيث التمثيل في هيئة الدستور في العادة يتناسب مع عدد السكان من جهة، ومن جهة أخرى فإن عملية الانتخاب التي تمت لهيئة صياغة الدستور انعكس سلبا على هيئة الدستور، وذلك من خلال قلة الخبرة الدستورية مثل بعض أعضاء اللجنة.

لقد اثبتت انتخابات الهيئة التأسيسة لصياغة الدستور بوضوح أن هناك تصميم للمضي بالتحول الديمقراطي في البلاد بالرغم من الظروف السياسية الصعبة والمخاوف الأمنية المثيرة للقلق، وبينما تمثل انتخابات الهيئة التأسيسة لصياغة الدستور خطوة مؤسساتية مطلوبة للتقدم بليبيا.

إلا أن الصعوبات الإجرائية والمستويات المنخفضة من المشاركة تؤكد على الحاجة الملحة للمزيد من الحوار السياسي لضمان استمرار تمثيل جميع الليبيين كجزء من العملية الانتقالية، وأن يتمكنوا من الإسهام في تشكيل مستقبل دولتهم، ولهذا الأمر أهمية بالأخص قبل إجراء أي عملية انتخابية مقبلة، حتى يتسنى للهيئة المنتخبة أن تمثل إرادة الشعب الليبي بشكل فعال، وقد تكون انخفاض مستويات المشاركة والإجهاد العام من خارطة الطريق السياسية للبلاد.

كذلك مؤشرا على أن المؤسسات السياسية في ليبيا لا تزال معرضة لخطر أن تصبح مفرغة، وأن تكون قيمتها بالنسبة للشعب بناء على ما يمكنها أن تحققه عن طريق المولاة بدلا من كونها مؤسسات حقيقية يمكن من خلالها رسم المستقبل السياسي للبلاد.

وقد بدأ المشهد السياسي والأمني يتعقد في ليبيا مرة أخرى عقب الفشل الذريع في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في 2011، وبخصوص ملفات بعينها، مثل قوانين الانتخابات، والحكومة التي يدعوا مجلس النواب إلى تشكيلها بدلا من حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وحكومة الاستقرار الوطني في بنغازي التي تشكلت في 10 فبراير 2022 عقب إجراء تصويت بالبرلمان الليبي حول تعديل الإعلان الدستوري، بسبب نشوب خلاف بين مجلس النواب الليبي وحكومة الوحدة الوطنية.

هذا فضلا عن وجود بعض القضايا العالقة بين الفرقاء السياسيين الليبيين، المتعلقة بقوانين الانتخابات، فمجلس النواب الليبي يعلن في كل المناسبات أن القوانين جاهزة ولا تحتمل أي تعديل أو تغيير، بينما المجلس الأعلى للدولة يرفض مثل هذه القوانين، ويصر على إعادة النظر فيها.

فهذا الخلاف لا يزال يسيطر على أي اجتماع يعقد بين عقيلة صالح رئيس مجلس النواب ومحمد تكالا رئيس المجلس الأعلى للدولة، ومن ثم يؤدي إلى فشل أي مبادرات لتشكيل أي حكومة جديدة، حيث يصر تكالا على معالجة نقاط الخلاف في القوانين الانتخابية قبل أي مشاورات بشأن تشكيل الحكومة الجديدة.

إن هذا الوضع فرض قيود جديدة على عملية التحول الديمقراطي في ظل غياب أي إرادة سياسية حقيقية لنبذ الخلافات وإعلاء المصلحة الوطنية في المقام الأول وعلى الرغم من الإلتزام باتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا، الذي عُقد في 23 اكتوبر 2023 برعاية الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وعودة مئات المرتزقة التشاديين والمقاتلين الأجانب من ليبيا إلى موطنهم.

إن تقدم انسحاب الوحدات العسكرية والجماعات المسلحة من جميع خطوط الأتصال لا يزال يواجه صعوبات بستت الجمود في المسار السياسي، فالمنافسات بين الجهات الأمنية لا تزال قائمة في طرابلس لتحقيق السيطرة على المناطق الاستراتيجية، كما أن الوضع الأمني في الجنوب الليبي أصبح مثيرا للقلق، ولا سيما مع تعقد الأوضاع في السودان ومنطقة الساحل.

خلاصات

1ـ شهدت ليبيا أزمة سياسية وأمنية من التغيير الذي حدث في 2011، ورغم ما تحقق من خطوات لبناء مؤسسات لإدارة الدولة من مجلس نواب ومجلس للدولة وحكومات متتالية غير أن هذه المؤسسات لم تنجح حتى الآن في قيادة البلد للوصول إلى الانتقال الديمقراطي الموجو والذي يأمله الليبيون.

ـ خيّم الانقسام السياسي المحمي بالقوة العسكرية من أطراف عدت حقيقة أمر2 واقع على أرض أكثر من كونها تستمد شرعيتها من أي توافق أو تشريع دستوري أو قانوني معين، وكان لأنتشار السلاح لدى المجموعات خارج إطار الدولة من بين المعضلات الكبرى وأحد أوجه هذه الأزمة.

3ـ كان لظهور خليفة حفتر واعتلائه المشهد العسكري والسياسي في الشرق بحجة مكافحة الإرهاب، الفيصل في تدهور الانتقال الديمقراطي لليبيا. ومنذ ذلك الوقت دخلت البلاد في أزمات متواصلة انتهت بحرب طاحنة على أسوار العاصمة طرابلس، مما أربك المشهد السياسي وسرّع من وتيرة تدفق النفوذ والتدخل الدولي إلى ليبيا.

4ـ رغم ما تمخض عليه اتفاق جنيف من تشكيل حكومة وحدة وطنية إلا أن الخلاف سرعان ما عاد إلى المشهد بين فرقاء الليبيين، بحجج قانونية وأخرى مناطقية واصطفافات ومواقف أملتها قوى إقليمية ودولية على بعض أهم الأطراف الفاعلة على الأرض الليبية.

5ـ لدى عمليات الانتقال الديمقراطي في ليبيا عوائق وصعوبات مجملة في 6 تحديات دون الجزم بحصرها هي: الثقافة السياسية الهشة وضعف مؤسسات الدولة والأوضاع الاقتصادية المتردية وضعف العوامل الاجتماعية المفرقة وهشاشة المجتمع المدني والفشل في التوافق حول قواعد العملية السياسية والسياسات العامة والتدخل الأجنبي.

6ـ شكّلت عدة عقبات عائقا في وجه الانتقال الديمقراطي في ليبيا ومن أبرزها الحالة الميليشاوية، والأنتماء للقبيلة، وعدم وجود دستور متوافق عليه بالبلاد وعرقلة صدوره، وضعف الوعي السياسي في بناء نظامهم الديمقراطي، وتدني قناعة وثقة الليبيين بأهميته ونجاحه على أيديهم بدل انتظاره من الخارج.

7ـ كان اتفاق الصخيرات عام 2015 مدخلا لحل الصراع السياسي والعسكري في ليبيا، وانبثقت منه المؤسسات القائمة حاليا، وحظى بتأييد وإشادة ودعم دولي، وإن وصف بالفاشل غير أن الواقع ينبئ بأن جوانب الإخفاق تمثلت في فشل أدوات تنفيذ الاتفاق التي تعاملت مع الانتقال الديقراطي لا في الاتفاق نفسه.

***

د. هاني محمد مفتاح أمبارك ـ محاضر وباحث في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة مصراته

_________________

المصدر: دراسة للكاتب بعنوان (الدبلوماسية المغربية ودورها في الانتقال الديمقراطي في ليبيا بين الإنجازات والتحديات) نشرت في مجلة اتجاهات سياسية ـ المجلد 8 ـ العدد 29 ـ ديسمبر 2024

مقالات مشابهة