الفيتوري شعيب
تتناول هذه الورقة دور التيارات الإسلامية المختلفة في المشهد السياسي الليبي الراهن، وتطلعاتها المستقبلية، فضلا عن التحولات التي شهدتها، والمسار الذي اتخذته.
وكذلك تحاول فهم البيئة الحاضنة والسياقات المحلية والإقليمية فضْلًا عن التفاعلات التي حَكمتها، ولا سيما تلك التي سيكون لها تأثيرها في مستقبل هذه التيارات.
مقدمة
تعددت الاتجاهات السياسية في المشهد السياسي الليبي برؤى سياسية محضة، وأخرى فكرية وأيديولوجية، لتشكل فِرَقا وتيارات متعددة تؤدي دورا مهما في الشأن الليبي، منها:
التيارات الإسلامية المختلفة، التي كانت ولا تزال تؤدي دورا فعّالا في المشهد السياسي الليبي، يزداد تفاعلا وانخراطا في المشهد السياسي، تبعا للحالة السياسية التي تمر بها البلاد بين الفينة والأخرى.
اشتراكا وتشابكا مع الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، سواء تلك التي تتفق معهم في أي من التوجهات السياسية والأيديولوجية أو التي تختلف معهم في أي منها.
مؤخرا وبعدما يقارب ثلاثة عشر عاما تداخلت عوامل كثيرة –محلية وإقليمية ودولية– في ترتيب التيارات الإسلامية في الصفوف السياسية الداخلية في كل الأزمات التي تقع في البلاد، سواء من ناحية تبني الأدوار الوظيفية السياسية، أو تلك التي تتعلق بالمجال الديني المحض.
وهذه الأخيرة عادة ما تخدم غايات سياسية وإن بطريقة غير مباشرة أو تعد لدور سياسي في المستقبل بطريقة أو أخرى.
من هذا المنطلق تحاول هذه الورقة الوقوف على دور التيارات الإسلامية المختلفة في المشهد السياسي الراهن، وتطلعاتها المستقبلية، والتحولات التي شهدتها، والمسار الذي اتخذته، وكذلك فهم البيئة الحاضنة والسياقات المحلية والإقليمية فضْلًا عن التفاعلات التي حَكمتها، وسيكون لها تأثيرها في مستقبل هذه التيارات.
كما ستركز الدراسة على الإسلاميين من منظور مجمل وشامل بما يوضح مكان ومكانة الإسلاميين من المشهد السياسي الليبي، ومن ثَمَّ تتحول الدراسة تدريجيا إلى التقسيمات الداخلية التي يمكن بها فهم واستيعاب التيارات المختلفة في البلاد، التي تنحصر في ثلاثة تيارات فاعلة في الساحة الليبية، هي:
تيار الإخوان المسلمين، والتيار السلفي، والشخصيات الإسلامية المستقلة.
والجدير بالذكر أن المقصود بالتيارات الإسلامية في ليبيا في هذه الورقة:
كُلُّ فصيل إسلامي يؤدي دورا سياسيا بطريقة أو أخرى في الشأن العام، بالإيجاب أو السلب، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء بالموافقة والسير في سلطات الحكومات الوظيفية المختلفة، أو تلك التي تتبنى نهج المعارضة والسعي إلى الوصول إلى السلطة بآلياتها المختلفة والمتداخلة في الحالة الليبية.
أولا: الإسلاميون والأزمة الليبية
يعتبر الإسلاميون أحد أهم الفاعلين في المشهد الليبي الراهن، ولا يشكلون فريقا واحدا، بل هم أطراف متعددة، وتعتبر الخلافات بين بعضهم إحدى معضلات الأزمة الليبية.
وقد تشكلت القوى الإسلامية الراهنة سياسيا في سياق ثلاث محطات أساسية شهدتها ليبيا.
المحطة الأولى، ثورة فبراير والحركة المضادة:
في خضم الأحداث التي كانت في الثورة الليبية منذ انطلاقها في 17 فبراير/شباط 2011، كان للتيارات الإسلامية المختلفة دور بارز فيها، سواء كانوا مقاتلين عسكريين شاركوا في الثورة عسكريا، أو من قبيل المشاركة السياسية المتباينة في الشأن الليبي منذ الثورة إلى الوقت الحالي، على اختلاف وتضارب مواقفهم.
فقد كانت لهم أدوار مهمة في العمليتين الثورية والانتخابية، وكذلك الأزمتين السياسية والأمنية، وساهموا مساهمة فاعلة في إسقاط النظام السابق.
كما شاركت عدّة جماعات وفصائل وشخصيات إسلامية في العملية الانتخابية أيضا، ليكون لها دور بارز في العملية السياسية الآنية، وحتى المستقبلية في البلاد، وأصبحت جزءا رئيسيا منها، وبذلك فلا يمكن فهمُ المشهد السياسي الليبي واستشرافُ مستقبله دون فهم طبيعة عمل هذه التيارات ودورها في صنع القرار السياسي في البلاد بطريقة أو بأخرى.
فقد هيمنت على المشهد السياسي الليبي في العقد الأخير، كثير من التقلبات والأزمات، وتجاذبت أطراف هذه “القوى الثورية” المصالح وتقاطعاتها الخارجية والداخلية، في واقع سياسي متقلب يكاد لا يهدأ.
وفي المقابل هناك تيار مضاد لهذا التوجه، سعى للعودة بالبلاد إلى “حكم العسكر“، ودخل في مواجهات عسكرية مع القوى الأخرى، وحظي بدعم أطراف داخلية وقوى خارجية.
ولهذا يمكن توصيف المشهد السياسي الليبي الحالي بأنه ينحصر بين طيفين أساسين في الغالب:
الأول هو طيف “الثورة“، وعادة ما يمثله جُلُّ الإسلاميين الموجودين في المشهد الحالي من شخصيات مستقلة وأحزاب سياسية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وحزب العدالة والبناء، وتيار يا بلدي، وغيرها من الأحزاب والقوى الأخرى المشابهة، وغالبها في الغرب الليبي.
أما الطيف الآخر، فهو طيف “الثورة المضادة“، و“عملية الكرامة“، إضافة إلى أحزاب توصف بأنها “علمانية“، وكذلك جلّ “التيار السلفي” خاصة في شرق البلاد.
هذا التباين في ليبيا حدث بفعل المواجهة في الإقليم، بين مسار الربيع العربي والثورات العربية من جهة، والدول المضادة والمناوئة للثورة، الأمر الذي شكّل معه هذا المشهد السياسي الداخلي في ليبيا، وتشكلت منه المحطات التي ولدت في سياقها قوى المشهد السياسي الحالي.
المحطة الثانية، عملية الكرامة وفجر ليبيا:
انطلقت عملية الكرامة في 16 مايو/أيار 2014 بمدينة بنغازي في شرق ليبيا، بهدف الوصول إلى السلطة في طرابلس؛ مما تسببت في زيادة حدة الصراع الدموي والانقسام السياسي في البلاد.
حيث هاجمت قواتها مقار متعددة للثوار والكتائب الإسلامية في بنغازي، قبل أن تصل إلى حدود العاصمة طرابلس، ومن ثم توسع الصراع ليشمل العديد من مناطق البلاد.
تصدت “كتائب الثوار“، وقطاعات من الجيش الليبي، في طرابلس وبنغازي لعملية “الكرامة” وأطلقت على عملياتها التي بدأت في 13 يوليو/تموز 2014، اسم “فجر ليبيا“. وجاء ذلك بعد شهرين من بدء عملية الكرامة ضد الثوار في بنغازي.
اعتبرت هذه القوى عملية الكرامة حركة مضادة للثورة، لإلغاء مكتسبات ثورة 17 فبراير، وأنها تمرد على الشرعية وعلى “المؤتمر الوطني العام” الذي جاء عقب إجراء أول انتخابات تشريعية في تاريخ ليبيا.
وقد حظيت عمليات “فجر ليبيا” بتأييد قطاعات واسعة من أنصار الثورة والأحزاب والتيارات الإسلامية المختلفة.
المحطة الثالثة، اتفاق الصخيرات:
اتفاق الصخيرات أو الاتفاق السياسي الليبي هو اتفاق شمل أطراف الصراع في ليبيا، وتم توقيعه تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات في المغرب بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، بإشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر لإنهاء الصراع في البلاد المندلع منذ 2014. وقد بدأ العمل به لدى معظم القوى الموافقة عليه في 6 إبريل/نيسان 2016.
جاء هذا الاتفاق بعد صدور حكم المحكمة العليا ضد لجنة فبراير، وبالتالي إبطال كل ما نتج عنها، أي إبطال الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2014، وأوجدت البرلمان الحالي، فدخلت البلاد حينها في أزمة شرعية برلمانية، أي شرعية بين المؤتمر الوطني العام والبرلمان الحالي.
بموجب اتفاق الصخيرات، جرى تقاسم السلطة بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة، الجسم الاستشاري المنبثق من المؤتمر الوطني العام.
والجدير بالذكر أن أعضاء المؤتمر الوطني العام، انقسموا حول هذا الاتفاق بين مؤيد ومعارض، إذ اعتبره المعارضون تدخلا دوليا وإقليما في البلاد، وتجاوزا لحكم المحكمة العليا التي تبطل انتخابات 2014 البرلمانية، بينما اعتبره آخرون حلا للمشكل السياسي الحاصل في البلاد، وتماشيا مع الإرادة الدولية.
…
يتبع
***
الفيتوري شعيب ـ كاتب ليبي وأستاذ جامعي، متخصص في العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي، له مؤلفات وبحوث محكمة، والعديد من المقالات الفكرية والسياسية، شارك في العديد من المؤتمرات والندوات المحلية والدولية.
_____________