علي المنتصر فرفر

المسؤولية الإنتخابية

جدل الحرية والمسؤولية جدل قديم جديد، ولكن ما يميز هذا النوع من الجدل ارتباطه بالجانب الأخلاقي بالمعنى العام للأخلاق، أي القيم والأسس والمبادئ والتقاليد وأنماط الثقافة والممارسة التي ترتبط بأحكام ورؤى قيمية.

كما أن السلطة المرتبطة بهذه الأمور هي في أغلبها سلطة أدبية لا علاقة ضرورية لها بالقمع أو التحفيز المادي.

وفي إطار الدراسات التي أجراها عالم الإجتماع الأمريكي إيريك فروم كانت هناك محاولات علمية جريئة من أجل معرفة الأسباب التي تكمن وراء التخلي عن المسؤولية والخوف من الحرية لدى بعض الجماعات البشرية في بعض الأزمان.

وكان تفسيره لذلك منصباً على أن الطبيعة البشرية لا يمكن النظر إليها باعتبارها كياناً جامداً، بل من خلال التناقضات الدراماتيكية في الوجود الإنساني ثقافياً ونفسياَ وبيولوجياَ.

ذلك يعني أن الحرية والمسئولية فيما يتعلق بالانتخابات أو بغيرها من المجالات ورغم الأبعاد الأخلاقية لهما يمكن أن تكونا محكومتين بشروط وظروف ومعطيات قد تؤثر عليهما سلباً أو إيجاباً، زيادة أو نقصاناً.

لكنه في كل الأحوال فالمسئولية هي أساس الحرية، والإنسان حر لأنه مسئول، أي أن الإنسان لم يخلق حراً ثم أصبح يبحث أو يُبحث له عن المسئولية، بل العكس هو الصحيح، أي أن الإنسان مسئول، ولذا أعطي الحرية لكي يستطيع أن يتحمل هذه المسئولية، ولكي يصبح مبدأ المحاسبة ممكناً.

الإنتخابات مسئولية لأنها تمثل إحدى دعائم تأكيد الإرادة السياسية للمواطنين، ولذا لا بد أن تكون هذه الإنتخابات حرة لكي تجسد حرية الإرادة السياسية.

وعلى غرار جدل الحرية والمسئولية يكون جدل المواطنة والمشاركة؛

ذلك أن أفضل أنواع التفاعل بين الإثنين يتمثل في تحقيق مواطنة المشاركة أو المواطنة القائمة على المشاركة التي تجسد مسئولية الأفراد خلال عمليات اتخاذ القرار، وليس المواطنة بمعناها المحايد القائم على قواعد ونصوص دستورية أو قانونية جامدة.

وعلى الرغم من أن المشاركة الحرة والمسئولة هي أداة لتكوين السلطة الديمقراطية، فإن الانتخابات في حد ذاتها ليست سلطة، بل قاعدة إجرائية لتكوين السلطة، وفي رأي شومبيتر فإن الناخبين عادة لا يملكون حتى سلطة التحكم في القادة الذين انتخبوهم والسبيل الوحيد هو إستبدالهم إنتخابياً بقادة آخرين، ويترتب على ذلك أن المشاركة تتطلب فقط توفر عدد كافٍ من الناخبين لضمان استمرار عجلة الآلة الإنتخابية في الدوران.

وفي مقابل ذلك فإن المشاركة في هذه القاعدة الإجرائية أي الانتخابات مبدأ ومسئولية تجاه الوطن والمواطنين الآخرين، كما أن أغلب الحقوق الإنسانية تمثل في حقيقتها شروطاً للمشاركة الفاعلة في بناء المواطنة.

الحديث هنا إذاً هو عن المواطنين ومشاركتهم الفاعلة والمسئولة، بيد أن هؤلاء المواطنين ينضوون ضمن هياكل ومؤسّسات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ومعرفية تؤطر مشاركتهم؛ الأمر الذي يعني إشكالية تأثير الوسائط البيروقراطية على مسألتي المواطنة والمشاركة؛

فالبيروقراطية كما لاحظ الكثيرون يمكن لها أن تسود ولكن لا يمكن لها أن تقود.

هذه الوسائط البيروقراطية يمكن إدارتها ولكن لا يمكن حكمها رغم تأثيرها البالغ على السلطة ومسألة اتخاذ القرار وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي نيكسون ذات مرة بقوله أن أمريكا يحكمها الجمهوريون والديمقراطيون والبيروقراطيون.

أما أبرز الحقوق الجماعية في اتخاذ القرار فهو حق تقرير المصير الذي قد تشكل الانتخابات أداة فاعلة لتجسيده سياسياً، ولتأكيد القدرة على التصحيح الذاتي للقرارات الجماعية، ولتحقيق التثقيف الذاتي حول السياسة وشئونها وشجونها.

وهنا تتداخل مسألة المواطنة مع مسألة تقرير المصير من حيث أن التمتع بحق المواطنة شرط أولي لممارسة حق تقرير المصير، الذي هو فعل يستطيع ممارسته كل مواطن شرط امتلاكه القدرة على ممارسته.

ولكي يتجسد الطابع الديمقراطي لمثل هذه الممارسات للحقوق والحريات، فإن جهدا كبيراً لا بد له أن يبذل لترسيخ الثقافة السياسية القائمة على مبدأ المواطنة المبادرة عبر مختلف الأشخاص والتنظيمات كي لا تتحول الانتخابات والاستفتاءات إلى مجرد ردود أفعال حول ما تطرحه السلطات الوطنية على المواطنين الكرام من قضايا وشئون تكون استجابات الجمهور المطلوبة إزاءها مربوطة بخيارات وبدائل محدودة معدودة، بل قد تتقلص إلى حفنة من المترشحين أو تختزل في كلمتي نعم أو لا.

ولعل أبرز ما تتسم به عدد من الساحات السياسية التي تشهد حركات احتجاجية شعبية عارمة يتمثل في عدم القبول بالخيارات التي تطرحها السلطات القائمة، واللجوء بدلاً من ذلك إلى خيار رفض هذه الخيارات الجاهزة المعلبة وطرح خيار ليس أياً من الخيارات السابقةبالطريقة التي تعكسها هتافات المتظاهرين الذين يريدون إزاحة جميع رموز السلطة السابقة من أجل خلق مناخات سياسية أكثر ارتباطاً بالناس وبطموحاتهم وتطلعاتهم.

يتبع

***

علي المنتصر فرفر ـ أستاذ الإعلام في عدة جامعات ليبية

______________

مقالات مشابهة