سارة بن سدرين
الحق في النفاذ إلى العدالة هو حق كل فرد في الوصول أو التوجه لسائر المحاكم قصد حماية حقوقه والدفاع عنها. إذ تكمن القيمة الحقيقية للقاعدة القانونية من خلال تفعيلها وتطبيقها وهو ما يضمن للأفراد التمتّع بحقوقهم كاملة. ولا يتحقّق ذلك إلاّ من خلال وضع إطار قانوني ومؤسّساتي يسهل النفاذ إلى العدالة بطريقة سلسة دون عقبات.
تبلور الحق في النفاذ إلى العدالة تدريجيّا مع تطوّر نظريّة الحقوق الأساسية وتطوّر مضمونها، وأضحى يصنّف من الحقوق أو الضمانات، أي أنه علاوة على كونه من الحقوق الأساسيّة فهو ضمانة قبليّة للتمتّع بغيره من الحقوق المتمّمة له.
ولما كان الحق في النفاذ إلى العدالة حقّا أساسيّا، فهو من بين الحقوق التي تكرّسها القوانين الأعلى قيمة في الدولة ويستفيد منها جميع الأفراد على حدّ سّواء، علاوة على أنها تتمتّع بضمانات أكبر من خلال النصوص التي تكرّسها والهيئات التي تسهر على حمايتها وحسن تطبيقها.
نتج هذا التكريس الوطني للحق في النفاذ إلى العدالة عن تأثير القانون الدولي لحقوق الإنسان. وبالرجوع إلى القانون الدولي من ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص للحقوق المدنيّة والسياسيّة والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، يتبيّن أنه لا وجود لتكريس صريح للحقّ في النفاذ إلى العدالة وإنّما تكريس للحق في “اللجوء الفعّال إلى المحاكم” و “الحق في المحاكمة العادلة“.
غالبا ما يختزل الحق في النفاذ إلى العدالة في غيره من الحقوق المكمّلة أو الضامنة له، كالحق في التقاضي والحق في المحاكمة العادلة، التي تكرّسها معظم الدساتير في العالم ليكون التكريس الصريح لهذا الحق استثناء ويعتبر إحرازا من ذلك ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوربي الصادر بتاريخ 7 ديسمبر 2000، الذي ينصّ صراحة في المادة 47 منه على مبدأ ضمان الوصول إلى العدالة.
يتضح أن الإعلان الدستوري الليبي الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي المؤقت بتاريخ 03 أغسطس 2011، قد كفل بدوره الحق في النفاذ إلى العدالة من خلال إقرار الحق في التقاضي والحق في المحاكمة العادلة، ووفّر المبادئ الأساسية للنفاذ إلى العدالة، وفق ما استقرّت عليه العهود والمواثيق الدولية إيمانا بعلويّة النص الدستوري ومبدأ التسلسل الهرمي للقواعد القانونيّة التي تقتضي التقيد بأحكامه وانعدام إمكانيّة الحياد عنه.
يحثّنا الوضع الانتقالي في ليبيا على التساؤل والبحث حول إمكانيّة الأفراد الولوج إلى العدالة في ظلّ تحدّيات سياسيّة ومجتمعيّة مختلفة ومتعدّدة ونظام قضائي قد شهد العديد من التنقيحات.
سنحاول من خلال هذه الدراسة الوقوف عند الحق في التقاضي، الذي يعد من أهم الحقوق الطبيعية للإنسان والذي بتحقّقه يتحقّق للفرد الولوج إلى العدالة. حيث أن هذا الحق يبقى مبتورا إذا لم يقترن بضمان محاكمة عادلة للمتقاضي، تفتح بموجبها أبواب العدالة على مصراعيها.
I- الحق في التقاضي ضمانة للحق في النفاذ إلى العدالة
اختار الإعلان الدستوري الليبي عنوانا للباب الرابع منه “الضمانات القضائيّة“، تعبيرا عن رغبة ملحّة في إرساء دولة القانون والمؤسّسات نابعة عن إرادة شعبيّة ثائرة والتي لا تتحقّق إلا من خلال توفير جملة من الضمانات التي تكفل “المواطنة والعدالة والمُساواة والازدهار والتقدم والرخاء وتنبذ الظلم والاستبداد والطغيان والاستغـلال وحُكم الفرد“.
يعدّ الحق في التقاضي أحد أهم الحقوق الأساسيّة باعتباره ضامنا لجملة من الحقوق الفرديّة الأخرى التي في غياب ضمانات تكفله تفقد قيمتها وأهمّيتها وتتجرّد من صفة “الحق“.
لا جدال أن الحق في التقاضي هو من أهمّ تجلّيات الحق في النفاذ إلى العدالة، حيث أن حماية الحقوق المنتهكة وتحقيق العدالة لا يكون إلاّ من خلال اللجوء إلى محاكم مختصّة (1)، تراعى مبدأ التقاضي على درجتين .
الأولى – حق اللجوء إلى محاكم مختصّة:
أقرّت المادة 31 من الإعلان الدستوري الليبي بأن: “لكل مواطن الحق في اللجوء إلى القضاء وفقاً للقانون“. وتضيف المادة 33 أن: “التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ولكل مُواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي“. وهو حق قد تأسّست دعائمه تدريجيّا منذ تاريخ 28 نوفمبر1953، وهو تاريخ إصدار قانون المرافعات المدنية والتجارية، وقانون الإجراءات الجنائية، هذا إلى جانب قانون المحكمة العليا، وهي المحكمة التي أكّدت بتاريخ 14 يونيه 1970، بمناسبة الطعن الدستوري عدد 4/14 ق على أنه: “إذا خلا أي دستور مكتوب من النص على حق كل مواطن في الالتجاء إلى القضاء، تؤمن له فيه حقوق الدفاع فأن هذا الحق مكفول دون الحاجة إلى النص عليه صراحة لأنه حق مستمدّ من أوامر العليّ القدير وهو من الحقوق الطبيعيّة للإنسان منذ أن خلق“.
تعزّز الإطار القانوني للحق في التقاضي بتاريخ 18 أكتوبر 1958، أي تاريخ نشر المرسوم الملكي بقانون إصدار قانون نظام القضاء الذي ألغي بموجب القانون رقم 29 لسنة 1962.
تطور نظام القضاء الليبي تدريجيّا بموجب هذه القوانين، وهو نظام يكرّس مبدأ وحدة القضاء ليتكون من محاكم جزئية، وهي محاكم درجة أولى تختص بالحكم ابتدائياً في الدعاوى المدنية والتجارية والأحوال الشخصية المحدّدة على سبيل الحصر ضمن المادة 46 و47 من قانون المرافعات المدنية والتجارية، كما تختص بالنظر في الجنح والمخالفات .
ويتكون أيضاً من محاكم ابتدائية تختص بالحكم ابتدائياً في جميع الدعاوى المدنية والتجارية ودعاوى الأحوال الشخصية التي ليست من اختصاص المحكمة الجزئية، وهي محكمة قانون عام تتولى الفصل في جميع المنازعات، والجرائم إلا ما استثنى بنص خاص.
ويتكون من محاكم استئناف، وهي محاكم درجة ثانية تنظر في الطعون استئنافيّا في الأحكام الصادرة عن محاكم الدرجة الأولى.
وعلى رأس هذه المحاكم جميعها محكمة عليا، وهي محكمة نقض تنظر في الطعون التي ترفع إليها في الأحكام الصادرة في المواد المدنية والتجارية ومواد الأحوال الشخصية في الحالات المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية والتجارية وفي الأحكام الصادرة في المواد الجنائية طبقاً لقانون الإجراءات الجنائية، وذلك حسب صريح المادة 24 من قانون المرافعات المدنية والتجارية.
يوجد بداخل المحاكم المذكورة نوع من القضاء التخصصي، وذلك من خلال إرساء دوائر متخصصة للنظر في بعض القضايا. منها دائرة القضاء الدستوري في المحكمة العليا التي تختص دون غيرها منعقدة بدوائرها المجتمعة في الطعون التي يرفعها كل ذي مصلحة شخصية مباشرة في أي تشريع يكون مخالفا للدستور وأية مسألة قانونية جوهرية تتعلّق بالدستور أو بتفسيره تثار في قضية منظورة أمام أية محكمة، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 23 من قانون المحكمة العليا التي أضيفت بموجب القانون رقم (17) لسنة 1994 المتعلق بتعديل القانون رقم (6) لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا.
لا يمكن التطرق لحق النفاذ إلى العدالة الدستورية دون الإشارة إلى قانون المحكمة الدستورية الجديد وتأثيره الجدي على الحق في الوصول للعدالة. سلب هذا القانون الجديد الاختصاص من الدائرة الدستورية وقد امتنعت المحكمة العليا عن تطبيقه، ويوجد طعن بخصوصه. يخلق القانون الجديد إشكال حقيقي في اللجوء إلى القضاء الدستوري في ليبيا، حيث أن الالتجاء إلى القضاء الدستوري، أصبح حسب القانون الجديد بالدفع فقط للمتقاضين، ولا يمكن الطعن مباشرة في قانون بعدم الدستورية إلا من قبل رئيس مجلس النواب، أو عشرة نواب على الأقل، أو رئيس الحكومة، أو عشرة وزراء حسب المادة 21 من القانون الجديد.
كما أن الدفع يخضع إلى مراقبة محاكم الأصل التي تقرر جديته والإحالة على المحكمة الدستورية من عدمه، وأن كان لها الإحالة دون دفع حسب المادة 25 من القانون، مما يمثل تقليص في مجال القضاء الدستوري، بل وتهديد للإنجازات التي مثلها فقه قضاء المحكمة العليا التي أصبحت حسب القانون الجديد محكمة النقض واضطراب في القضاء الدستوري قد يجعل منه شكلي ومحدود وبالتالي تراجع للحق في النفاذ إلى العدالة.
كما تختص دوائر القضاء الإداري المنشأة على مستوى محاكم الاستئناف بالفصل في طلبات إلغاء القرارات الإدارية غير الشرعية.
يخاطر القانون رقم 4 لسنة 2017 بالحق في الوصول للعدالة من خلال مثول الشخص أمام قاضيه الطبيعي، حيث منح الاختصاص للقضاء العسكري في تولي القضايا بناء على قانون مكافحة الإرهاب بغض النظر إذا كان المتهم مدني أو عسكري. من حيث الممارسات فهناك عدد كبير يتم احتجازه بدون محاكمات أمام القضاء العسكري استنادا إلى هذا التعديل. وهي إشكالية حقيقة مخالفة لمبدأ حق الالتجاء إلى محكمة مختصة ومبدأ عدم جواز المحاكم الاستثنائية ومبدأ عدم جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.
يراعى في التنظيم القضائي كأحد أهم ضمانات الحق في الولوج إلى القضاء، وجوب تقريب المحاكم من المتقاضين وذلك بتوزيعها على كامل القطر الليبي أخذا بعين الانتشار الجغرافي للإقليم الليبي. وهو ما أقرّه الإعلان الدستوري صراحة في المادة 33 التي تؤكد في آخرها أن الدولة: “تكفل تقريب جهات القضاء من المُتقاضين، وسُرعة الفصل في القضايا“، إيمانا أن النفاذ إلى العدالة وتحقّق هذا الحق لا يكون إلاّ من خلال تقريب المحاكم من المتقاضين. يعد تقريب المحاكم من المتقاضين من الضمانات الجديدة والتي لم تحض باهتمام ضمن التشريع الليبي قبل صدور هذا الإعلان الدستوري. لا يمكن أن تبقى هذه الضمانة مجرّد تكريس تشريعي خاصة وأنه على مستوى التطبيق لازال يشكو المتقاضي أمام المحاكم الليبيّة من بعض الصعوبات في علاقة باللامركزية القضائية.
…
يتبع
***
سارة بن سدرين ـ محامية تونسية لدى محاكم الاستئناف وأستاذة عرضيّة بكلية العلوم القانونية والاجتماعية ، متحصّلة على ماجستير قانون أعمال من كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة ، على شهادة الكفاءة في مهنة المحاماة من المعهد الأعلى للمحاماة بتونس وعلى شهادة في تدريس مادة حقوق الإنسان من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ ” René Cassin
_______________