سارة بن سدرين

2- تكريس مبدأ التقاضي على درجتين:

تضمن المعاهدات الدوليّة والاقليميّة حق التقاضي على درجتين كحق مكفول. نصت المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في فقرتها الخامسة: “أنه لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء وفقا للقانون إلى محكمة أعلى كي تعيد النظر في قرار إدانته وفي العقاب الذي حكم به عليه“.

يعد مبدأ التقاضي على درجتين من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها التنظيم القضائي في مختلف الأنظمة القضائية المعاصرة. يكمن المبدأ في إتاحة الفرصة لمن صدر ضده حكم من محكمة درجة أولى من شأنه أن يقيّد حقوقه وحرياته أو يضر بها، وأن يعيد طرح موضوعه بكافة عناصره الواقعية والقانونية مرّة أخرى أمام محكمة الدرجة الثانية بموجب الطّعن فيها عن طريق الاستئناف.

كرّس التشريع الليبي مبدأ ثنائيّة التقاضي ضمن قانون المرافعات المدنية والتجارية وقانون الإجراءات الجنائية. فتنظر المحاكم الابتدائيّة في قضايا الاستئناف التي ترفع إليها عن الأحكام الصادرة ابتدائياً من المحكمة الجزئية. وتختص محكمة الاستئناف بالحكم في قضايا الاستئناف الذي يرفع إليها عن الأحكام الصادرة ابتدائيا من المحكمة الابتدائية.

أما في المادة الجزائية، فاستئناف المخالفات والجنح يقع أمام الهيئات الاستئنافية المشكلة في كل محكمة ابتدائية. أما الجنايات، فلا ينص قانون الإجراءات الليبي إلا على درجة واحدة وهي دائرة الجنايات المشكلة في كل محكمة من محاكم الاستئناف. ولا يوجد استئناف للأحكام الصادرة في مواد الجنايات فالتقاضي بشأنها وفقاً لأحكام القانون الليبي يكون أمام درجة واحدة، ولا يكون أمام المتهم من سبيل لمراجعة الحكم إلا بالطعن أمام المحكمة العليا.

بالتالي تكون مادة الجنايات استثناءا من مبدأ التقاضي على درجتين وهو أمر ملفت للانتباه نظرا لخطورة أحكام تلك المادة بما يجعل من الحاجة إلى ضمانات المحاكمة العادلة اوكد من بقية المواد.

تجدر الإشارة أنه فيما يتعلق بالجرائم الموصوفة بكونها جنايات تنظر للمرة الأولى في غرفة الاتهام، باعتبارها أول درجة إلا أنها في حقيقتها قضاء إحالة وليس قضاء حكم أي تهتم بما هو شكلي وإجرائي أكثر من الموضوع وتأصيل الإدانة أو البراءة، وبالرغم من اختصاصها بنظر القضايا قبل إحالتها إلى محكمة الاستئناف، وهو ما لا يجعل منها درجة أولى في التقاضي على المعنى التقني للمصطلح.

II- الحق في المحاكمة العادلة ضمانة للحق في النفاذ إلى العدالة

تنهض دعائم العدالة والمساواة في أي بلد وفي ظل أي نظام قانوني على المحاكمة العادلة والتي تتحقّق بواجبات محمولة على الدول والحكومات تتمثّل أساسا في ضمان قضاء مستقلّ وتوفير حقّ الدفاع لجميع المتقاضين دون ميز أو تفريق.

فضلا عن توفير مستلزمات البنية التحتية والطاقات البشرية اللازمة والإجراءات لفائدة أصناف من المتقاضين كغير الناطقين باللغة العربية أو ذوي الاحتياجات الخاصة.

تمثل المحاكمة العادلة ضمانة لتمكين الأفراد من حقوقهم وهو ما يتحقّق معه اكتمال النفاذ إلى العدالة، وعلاوة على ذلك معيارا رئيسيّا لتقييم الحكم في مختلف الدول ومقياسا لمدى رقيّها ونضجها، فقد باتت تصنّف بمدى احترامها لمبادئ حقوق الإنسان.

1- مبدأ استقلال القضاء:

أكّدت منظّمة الأمم المتحدة ضمن مبادئها الأساسية بشأن استقلالية القضاء على أنه: “تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الوقائع ووفقا للقانون، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب“.

لقد سبق وكرست هذا المبدأ المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتنص على: “لكلِّ إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحقُّ في أن تَنظر قضيتَه محكمةٌ مستقلَّةٌ ومحايدةٌ، نظرًا مُنصفًا وعلنيًّا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أيَّة تهمة جزائية تُوجَّه إليه“.

تأسيسا على ذلك، فأن أهم المبادئ الأساسية التي تحكم الوظيفة القضائية فـي ليبيا هو أن القضاة مستقلّون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وهو من المبادئ الأساسية الكونيّة المكرّسة في جلّ دساتير العالم. وهو ما كرّسه نص المادة 32 من الإعلان الدستوري الليبي:السُّلطـة القضائيـة مُستقلة، وتتولاها المحاكـم على اختـلاف أنواعها ودرجاتهـا، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، والقُضاة مُستقلون لا سُلطان عليهم في قضائهم لغير القانون والضمير“.

يمثل استقلال القضاء أوكد صلاحيّات الدولة التي تسهر على تأمينه وهو ما تأكّده المبادئ الأساسية للأمم المتحدة، التي تقرّ على أن الدولة تكفل استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية“.

وحيث لا يتحقّق ذلك إلا من خلال ضمانات قانونيّة أخرى، لعلّ أبرزها تأمين الظروف الملائمة لعمل القاضي وحمايته أثناء القيام بمهامه من كلّ ما من شأنه أن يمثّل تدخّلا أو تعسّفا في قضائه.

ومن الثابت أن هناك علاقة وطيدة بين استقلال القضاء ومسألة عزل القضاة تعسفيّا، مما يمثّل خطرا مستمرّا لهم من شأنه التأثير مباشرة على استقلاليّتهم وأحكامهم لما فيها من تهديد على مراكزهم وسمعتهم.

تحصّن القانون الليبي من النقل التعسّفيّة، التي قد تمثّل في بعض الأنظمة وسيلة غير مباشرة للضغط على القضاة أو محاولة تهديدهم بطريقة مقنّعة وغير مباشرة ومعاقبتهم من قبل السلطة، فيكون قرار النقلة معلّلا وجوبا ويبقى للقاضي حقّ التظلّم إذا ما رفض هذا القرار أو اعتبره تعسّفيّا.

تحصّن القانون الليبي من النقل التعسّفيّة، التي قد تمثّل في بعض الأنظمة وسيلة غير مباشرة للضغط على القضاة أو محاولة تهديدهم بطريقة مقنّعة وغير مباشرة ومعاقبتهم من قبل السلطة، فيكون قرار النقلة معلّلا وجوبا ويبقى للقاضي حقّ التظلّم إذا ما رفض هذا القرار أو اعتبره تعسّفيّا.

وهو ما تقتضيه نص أحكام المادة الرابعة من القانون رقم 32 لسنة 2023 بشأن تعديل بعض أحكام قانون نظام القضاء: “لا يجوز نقل عضو الهيئة إلى هيئة أخرى إلا بناء على مقترح مسبب من إدارة التفتيش على الهيئات القضائية بالنسبة للنقل من القضاء، أو إليه ويكون النقل في غير ذلك بناءً على أسباب مكتوبة يرفعها رئيس الهيئة الذي اقترح النقل إلى المجلس؛ ليبدي رأيه فيها، ويكون نقل العضو بناءً على طلبه خاضعا لتقدير المجلس، بعد إبداء إدارة التفتيش على الهيئات القضائية رأيها بالنسبة للقضاة، وبعد موافقة رئيس الهيئة التي يرغب العضو الانتقال إليها بالنسبة لغيرهم.

وللعضو المنقول دون رغبته التظلم من النقل أمام المجلس خلال عشرة أيام من تاريخ تبليغه بقرار النقل. وعلى العضو المنقول الاستمرار في عمله حتى تبليغه بقرار النقل، ولا يخلى طرفه حال تظلمه إلا بعد البت في تظلمه.

وعلى المجلس البت في التظلم من قرار النقل خلال مدة لا تجاوز خمسة عشر يوماً من إيداع التظلم ولا يكون من ضمن هيئة نظر التظلم رئيس الهيئة الذي اقترح النقل من الهيئة، فإذا انقضى الميعاد دون بـت عـد قرار النقل لا غيا دون حاجة إلى إجراء آخر“.

هذا التنقيح الأخير، أدخل على نظام القضاء الليبي في تناغم مع التوجّه الدولي من ذلك، ما أكّدت عليه لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ضمن التعليق العام عدد 32، في إطار تفسير مقتضيات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث أكّدت في توضيحها لإلتزام الدولة بضمان الحق في محاكمة عادلة على أنه: “لا يجوز فصل القضاة من الخدمة إلا لأسباب خطيرة تتعلق بسوء السلوك أو عدم الكفاءة، ويكون ذلك وفقًا لإجراءات عادلة تكفل الموضوعية والحياد بموجب الدستور أو القانون. قيام السلطة التنفيذية بإعفاء القضاة، على سبيل المثال، قبل انقضاء مدة الولاية المحددة لهم، أو من دون إبداء أسباب محددة أو حصولهم على حماية قضائية فعالة تمكنهم من الاعتراض على إعفائهم، يتعارض مع استقلالية القضاء“.

بالرغم من ذلك التنقيح، لا يجب أن نسهى أنه ومن حيث الواقع العملي لايزال القضاة وأعضاء النيابة معرضين للعزل من خلال نقلهم إلى الإدارات الأخرى. يواجه هذا التعديل عرف قوي وجريان عمل وإرث من الممارسات التي لن يغيرها النص بسهوله، ومع ذلك لا يجب أن يبرر عدم الإصرار على تغيير الثقافة القانونية والإجرائية السائدة وخلق تقاليد مؤسسية.

قد يطرح السياق الليبي إشكالات واقعية بخصوص فاعلية استقلال القضاء من خلال عدم الاستقرار وانقسام السلط السياسية وعدم ضبط أمن المحاكم والقضاة وهي تحديات جدية في سبيل توفير الاستقلالية الناجزة للقضاء والقضاة في ليبيا.

يتبع

***

سارة بن سدرين ـ محامية تونسية لدى محاكم الاستئناف وأستاذة عرضيّة بكلية العلوم القانونية والاجتماعية ، متحصّلة على ماجستير قانون أعمال من كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة ، على شهادة الكفاءة في مهنة المحاماة من المعهد الأعلى للمحاماة بتونس وعلى شهادة في تدريس مادة حقوق الإنسان من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ ” René Cassin

_______________

مقالات مشابهة