سالم العوكلي
تسعى هذه الورقة لإعادة التأمل في بعض المفاهيم العالقة بالذهن والجامدة في التاريخ، والتي تحولت مع الوقت إلى نوع من التهم، أو الحكم القيمي المسبق دون الانتباه لبعدها التاريخي والاجتماعي، ولِما طالها من تغيرات فرضها ضغط التكيف مع نتاجات العصر واستحقاقات المنافسة.
و (القبيلة) من هذه المفاهيم التي جُمدت في إفريز القاموس السياسي وتستخرج كل مرة في سياق توجيه اصبع الاتهام لها كلما حدثت معوقات أو أزمة أو مظاهر تخلف، إضافة إلى الربط العضوي الدارج بين القبيلة والبداوة كبنى طاردة لفكرة الدولة المدنية ولدولة القانون والجدارة.
أحاول أن أخفف من السعار الموجه تجاه القبيلة والقبلية كأدوات معطِّلة لبناء الدولة أو للشروع في مستقبلها الديمقراطي، لأن هذا التشخيص ربما يكون خاطئا أو على الأقل غير دقيق.
بمعنى أننا حين نركز على هذا الجانب قد نغفل عن جوانب أخرى أكثر تأثيرا وخطرا، مثلما يحدث في التعامل مع مرض السرطان مثلا، فكل التحذيرات تتوجه إلى التدخين وكأنه السبب الوحيد أو الرئيس للإصابة به، بينما أظهرت الدراسات أنه أحد الأسباب من جملة أسباب أخرى أكثر خطرا وأقل التفاتا لها، مثل الدهون والمواد الحافظة والمبيدات الزراعية والأسمدة الكيماوية والزيوت المهدرجة وعوادم السيارات والمصانع … إلخ.
ويثبت هذا أن سرطان الرئة الذي يسببه التدخين أقل إحصائيا من أنواع السرطانات الأخرى، وأن معدل الإصابة بسرطان الثدي لدى النساء غير المدخنات أضعاف أضعاف الإصابة بسرطان الرئة الناتج عن التدخين، لكن الناس الذين تم توجيه اهتمام أبصارهم صوب التدخين كسبب رئيس للسرطان، يغفلون عن الأسباب الأخرى الأكثر خطرا.
هذا مثال قد يساعد في ما يتعلق بتشخيص الأزمة أو المشكلة، ولكن فلنحور هذا المثال بشكل قد يفيد من زاوية أخرى: ثمة غير مدخنين أصيبوا بسرطان الرئة (ونحن مازلنا في صدد التمثيل على التركيز على القبيلة والقبلية كسبب وحيد للأزمة) دون أن يكونوا مدخنين، ويُرجع المختصون هذه المشكلة لما يسمى التدخين السلبي، بمعنى التدخين غير المباشر عبر وجود الشخص وسط مدخنين واستنشاق الدخان دون أن يقصد.
وهذا ينطبق على القبلية ــ إذا ما اعتبرناها افتراضا سبب المشكلة ــ بتأثيرها السلبي أو غير المباشر، بمعنى أن ثمة من لا ينتمي لقبيلة ولا يمارس القبلية بشكل مباشر، لكنه يُحّول جماعته الجديدة : حزب أو منظمة مدنية أو حكومة أو شركة، إلى قبيلة ــ وقد يقال لا بأس مادام انتمى لقبيلة مختلفة لا تربطها علاقات الدم، وهذا ما جعلنا نرفع في فترة لافتة تقول (ليبيا قبيلة واحدة) في ظل شعارات تزدري القبلية من أساسها ــ وهنا يتضح المقصود بالقبلية السلبية التي وضعناها في مقابل التدخين السلبي.
فلا تكمن المشكلة في كون شخص جعل من انتماءٍ جديد قبيلَته، لكن في كونه يديرها بعقلية القبيلة أو بأسلوب قبلي (وأنا هنا أقصد بعقلية القبيلة الرعوية التقليدية التي ما عادت موجودة بهذا المفهوم) والتي كانت مترحلة لا تستقر. والتي كان فيها الشيخ شيخا مدى الحياة، ولابد أن تطاع أوامره، والمشيخة وراثية غالبا، وما يفعله الشيخ بشكل منفرد ينسحب على كل القبيلة.
وهي المواصفات التي من الممكن أن تنطبق على رئيس أو مؤسس الحزب، أو رئيس المنظمة المدنية، أو رئيس الحكومة، أو رئيس السلطة النيابية، أو مدير الشركة أو المصنع أو حتى الجامعة.
وعلى الرغم من تغير بنية القبيلة التقليدية ومنظومة العلاقات داخلها، وتغير شيوخها الذين أصبح بعضهم حاصلا على شهادة الدكتوراة في علم الاجتماع أو القانون، وتغيرت عقيدة أعضائها ومصادر معرفتهم، إلا أن أسلوبها القديم المنمط يصبح العقلية التي تدار بها المؤسسات المعاصرة، بما يشبه الحزب السياسي الذي يتبنى عقائد دينية عتيقة رغم أنها تغيرت حتى داخل المؤسسة الدينية التي تخرج منها.
القبيلة، البداوة، أو مايشتق منها من مفردات تتوجه في مجملها لوصف حالة رجعية من التخلف الذي يناهض الحداثة، بدأت علكة دائمة نستخدمها دون أن نتوقف عند ما طرأ من تبدلات جذرية في هذه المفاهيم
وقد أتيح لي أن أعيش حياة البداوة في قلب القبيلة وأن أعيش في المدينة في قلب الحاضرة، وكنت ألمس تلك المتغيرات في هذه المفاهيم التي تتناغم مع وتيرة سريعة في التقنية والحضارة والتواصل.
حيث مفهوم القبيلة في الاقتصاد الرعوي او الزراعي البعلي تغير تماما بعد النفط وما ترتب عنه من إعادة علاقات إنتاج وانسياب خدمي حضاري طال المناطق المعزولة والنائية.
وحيث مفهوم البداوة تغير مع شبكة المعلومات والمعرفة التي اجتاحت كل الجيوب المعزولة في العالم، مثلما فعلت يوما الطرق المعبدة والقطارات في تغيير وتطوير هذه البنى حين تواصلت مع المدن بفهموما الميتروبوليكي المصدر لقيمها للمحيط عبر أدوات الاتصال والتواصل هذه.
شُتمت القبلية وخُوِّنت في السنوات الأولى من حكم الانقلاب، ثم عادت في ثوب الولاء الأيديولوجي وعبر تحالفات يحكمها “الولاء الثوري“، وعبر أشخاص يحررون وثائق المبايعة للقائد، هم في الواقع لا يمثلون قبائلهم التي لا تستطيع التبرؤ من مواقفهم في ظل العسف، وهذا التوظيف السيء مع جعل البدونة شعارا للنظام السابق ومؤسساته وحتى فنونه، خلَطَ بين القبيلة والأيديولوجيا، على الرغم من أن القبيلة نفسها تقوضت بداوتها مع دخول تقنيات العصر ومعارفه.
وأشهرت الخطاب الأيديولوجي الخيمة في وجه القصر، مع أن العصر كان يسمح بأن تتحول الخيمة إلى قصر وليس العكس، مثلما بنت المجتمعات المتحضرة قصورا للمزارعين وزودتهم بكل وسائل التقنية والمعارف حين قررت المدينة أن تصدر نفسها للمحيط، لا أن تنطوي وتزدري هذا المحيط الحيوي والضروري للتنمية والتعايش وبناء الدولة، وتكيل له الاتهامات وكأنه خطر من أخطار الطبيعة.
في فترة النظام السابق أدمجت الولاءات القبلية في أيديولوجيا الحاكم كتكنيك للتمكن من السلطة، واستغل انتهازيو القبائل هذا الظرف، مثلما حدث بعد ثورة فبراير، حيث هيمنت أيديولوجيا الإسلام المسيس على المشهد.
وإذا ما لمسنا مظهرا لتراجع السلطة الهرمية للقبيلة، أو نظامها الأبوي التقليدي، باعتبارها منظومةً اجتماعية مرنة يطالها ما يطال المجتمع من تغيرات ويمكن استيعابها في مشروع الدولة الحديثة.
…
يتبع
________________
المصدر: منصة القانون والمجتمع في ليبيا