زاهي بشير المغيربي

3- أزمة التغلغل

يرتبط مفهوم التغلغل بقدرة الدولة على أداء وظائفها الاستخراجية والتنظيمية. وتنجم أزمة التغلغل عن عجز الدولة ومؤسساتها عن أداء وظائفها وممارسة أدوارها على كامل الامتداد الجغرافي للدولة وعلى كل المستويات وحيال كل الجماعات بصورة تتسم بالفاعلية والكفاءة. وبالنظر إلى أن المؤسسات الاستخراجية والتنظيمية تشكل أساس إدارة أي دولة حديثة، فإن تدني القدرات الاستخراجية والتنظيمية للدولة يحد من إمكانية التغلغل في المجتمع جغرافيا ووظيفيا، ويقلل من إمكانية سيطرتها وتنفيذ سياساتها العامة وتحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية.

ويستبين حتى من النظرة السريعة الخاطفة للأوضاع الحالية في ليبيا تدني قدرات الدولة في مجالي الاستخراج والتنظيم، حيث توجد حكومات عاجزة عن الحكم، وسلطات تعوزها السلطة، ومجالس تشريعية غير قادرة على الحسم. ورغم الميزانيات الضخمة المخصصة والمصروفة، فشلت المجالس التشريعية والحكومات المتعاقبة في وضع حلول ناجعة لتحريك عجلة الاقتصاد الوطني، ومعالجة مشاكل المركزية، ومواجهة الإرهاب، والتعامل مع انتشار السلاح.

ويمثل بناء الجيش الوطني إشكالية كبيرة تواجه سلطات الدولة. كما لا يجب الافتراض بأن الميلشيات المدنية المسلحة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد ملتزمة بالضرورة ببناء الدولة أو الاقتصاد، لأن العديد من هذه الميلشيات المسلحة غير المنضبطة تعيش على الدولة وليس من أجل الدولة، وهذا أحد أسباب معارضة قادة هذه المياشيات والنخب السياسية المرتبطة بها لإعادة بناء الجيش الليبي وتفعيل وحداته العسكرية بذريعة أنها من بقايا جيش النظام السابق. وهذا المزيج من دولة لا تتغلغل وسلطات غير قادرة على بناء مؤسسة عسكرية قوية ومنضبطة يفسر الكثير من أزمات بناء الدولة والتعايش المجتمعي والسياسي التي تواجه الدولة الليبية. وقد كان لكل ذلك تأثير سلبي على ثقة المواطنين في مؤسسات المرحلة الانتقالية وقياداتها السياسية.

4- أزمة التوزيع

يُقصد بالأداء التوزيعي قيام مؤسسات الدولة بتخصيص مختلف أنواع السلع والخدمات والامتيازات والفرص للأفراد والجماعات في المجتمع. ويمكن قياس الأداء التوزيعي ومقارنته وفقا لحجم ما يتم توزيعه، ووفقا لمجالات الحياة الإنسانية المتأثرة بهذه المنافع، ووفقا للقطاعات السكانية المستفيدة من هذه المنافع، ووفقا للعلاقة بين الاحتياجات الإنسانية والتوزيعات الحكومية التي تهدف إلى الاستجابة لهذه الاحتياجات. ويعتمد الأداء التوزيعي للدولة على حجم الموارد ومصادر التمويل المتاحة لها(ألموند، صفحة 289) وبحسبان أن ليبيا تنتمي إلى صنف الدول الريعية التي تعتمد بشكل أساسي على مورد ريعي وحيد وهو النفط، فسوف يتم التركيز في الجزء المتبقي من هذا القسم على السياسات الاقتصادية الريعية للدولة الليبية خلال العقود الأربعة السابقة لانتفاضة فبراير 2011 والسنوات التي تلتها.

ونظرا لأن النخب الحاكمة في ليبيا، خاصة بعد 1978، كانت هي صانع القرار الوحيد فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والتوزيع والاستثمارات والأنشطة الأخرى، ولم تتركها لقوى السوق، فقد أدت السيطرة على الموارد الاقتصادية الريعية عبر السيطرة على مؤسسات الدولة إلى تعزيز قدرة هذه النخب على تكوين ثروات، وعلى استخدام سيطرتها على الدولة وهيمنتها على النشاط الاقتصادي لتوفير منافع لحلفائها وحرمان خصومها من الفوائد الاقتصادية. وقد نتج عن ذلك بروز اقتصاد ريعي مسيس حيث كان الكسب الاقتصادي الفردي نتاجا للوصول إلى، والقرب من، السلطة والقوة السياسية، وليس نتيجة لزيادة الإنتاجية والكفاءة والإسهام في مراكمة الثروة الاقتصادية للمجتمع. ولم تتميز السياسات الريعية بعدم الكفاءة الاقتصادية فحسب، بل قوضت أيضا شرعية الدولة وقللت من قبول عدم المساواة، وشجعت السلوك ضدالاجتماعي والفساد المالي والإداري والسياسي. وفي مثل هذا المناخ المسيس جدا، ومع محدودية البدائل غير السياسية لتحسين المكانة والدخل، أصبح الصراع من أجل القوة والسلطة حادا وعنيفا في الغالب، وتمت عرقلة التنمية السياسية والاقتصادية ومأسسة عمليات بناء الدولة.

وقد استمرت النخب الحاكمة بعد فبراير 2011 في اتباع نفس السياسات الريعية للنظام السابق، واستخدمت الموارد النفطية في تشكيل التحالفات وتكوين الميلشيات، وأصبحت في واقع الأمر رهينة لهذه الميلشيات المسلحة، ووصل الفساد بكل أشكاله إلى مستويات غير مسبوقةوقد أدى انخفاض أسعار النفط المتواصل منذ 2014 إلى تدني دخول الدولة الليبية بشكل ضخم وأثر بصورة مباشرة على أدائها التوزيعي وخلق أزمة توزيعية حادة أثرت على النشاط الاقتصادي وزادت من معاناة المواطنين. وأسهم عجز مؤسسات الدولة المنقسمة عن وضع السياسات الاقتصادية اللازمة لمواجهة هذه الأزمة وغيرها من الأزمات في تفاقم سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ولقد أدى تزايد مستويات الفساد المالي والإداري والسياسي واستمرار النخب الحاكمة في الاستفادة من المزايا الاقتصادية التي يؤمنها المنصب السياسي، دون أي اعتبار للظروف الاقتصادية الصعبة السائدة، إلى ارتفاع مستويات السخط الشعبي والإحساس بعدم شرعية سلطات الدولة.

5- أزمة المشاركة

بعد السابع عشر من فبراير فُتحت كل الأبواب وشُرّعت كل النوافذ أمام المشاركة السياسية والاجتماعية، وكان ارتفاع التوقعات واتساعها بقدر ارتفاع السموات واتساعها، وتشكلت الأحزاب السياسية وتنامت منظمات المجتمع المدني وأُجريت الانتخابات المحلية والوطنية والتأسيسية. إلا أن عقود التصحر السياسي وحظر الأحزاب وتقييد منظمات المجتمع المدني وغياب الانتخابات ألقت بظلالها المعتمة على الساحة السياسية وأنتجت أحزابا شائهة، ومنظمات مجتمع مدني قاصرة، وانتخابات لم تترجم نتائجُها تطلعات الناخبين وطموحاتهم، وتصرفات وسياسات للنخب الحاكمة لم ترق إلى مستوى توقعات المواطنين.

فقد تأثرت الأحزاب الناشئة بفترات المنع والقمع الماضية وعوز الخبرة بالعمل الحزبي والسياسي العلني، فهي تعاني ضعفا تنظيميا في إدارتها، وتفتقر إلى مشروع سياسي واضح المعالم، وإلى قاعدة اجتماعية حقيقية، وهي لذلك عاجزة عن تأدية دور الفاعل السياسي والاجتماعي القادر على إنجاح عملية التحول الديمقراطي، وإعلاء الصالح العام بالقطع مع القبيلة والغنيمة والعقيدة. أيضا فإن الأحزاب التي نشأت حديثا عكست دينامية تصارعية عقدت المشهد وجعلت الوصول إلى توافقات وتسويات صعبا. وبسبب سوء أداء الأحزاب، الذي يرجع أساسا إلى حداثة تجربتها، تنامى توجه مؤداه أن مناط الخلل في الأداء السياسي هو فكرة التعددية الحزبية نفسها، فظهرت دعاوى مناوئة لهذه الفكرة، تُرجم بعض منها عيانا في قانون انتخابات الهيئة التأسيسية وقانون انتخابات مجلس النواب وتتوج أخيرا في مسودة لجنة العمل للهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بمنع الأحزاب السياسية لمدة أربع سنوات من بدء العمل بالدستور الليبي الجديد. وغني عن البيان أن مثل هذه النظرة السلبية لمفهوم التعددية الحزبية ولأداء الأحزاب إنما تسهم بدورها في عرقلة التحول الديمقراطي، وتحول دون التوافق النخبوي على السياسيات العامة(المغيربي والحصادي)

وفي حين أن معظم أدبيات التحديث والتنمية السياسية والتحول الديمقراطي تتفق على أن وجود مجتمع مدني قوي وفاعل من العوامل الداعمة للنظام الديمقراطي، وعلى الرغم من بروز أعداد ضخمة من منظمات المجتمع المدني في ليبيا بعد ثورة فبراير، فإن المجتمع المدني في ليبيا يعاني من الكثير من الاختلالات الناجمة عن تجربة العقود السابقة، وأهم هذه الاختلالات هيمنة الدولة والتبعية التمويلية. فقد كانت الدولة مهيمنة بشكل كامل على المجتمع المدني حيث إن النقابات والاتحادات والروابط المهنية والجمعيات التطوعية الأهلية تُنشأ وتُنظم ويعاد تنظيمها وحلها بقرارات ولوائح وقوانين من الدولة، كما أن منظمات المجتمع المدني لم تكن مجالا مستقلا ومنفصلا عن الدولة، بل كانت متضمنة في البنية التنظيمية الرسمية وتعتبر جزءا من آليات النظام السياسي الليبي آنذاك. من جانب آخر، فإلى جانب خضوع المجتمع المدني تنظيميا وسياسيا لهيمنة الدولة فإنه كان خاضعا لسيطرتها التمويلية الأمر الذي قضى على استقلاليتها وفاعليتها وقدرتها على القيام بدور إيجابي في العملية السياسية.

وعلى الرغم من الفرص المتاحة الآن للمجتمع المدني لتوكيد استقلاليته التنظيمية والتمويلية، غير أن المعضلة تتمثل في أن العقود الطويلة من خضوع هذه المنظمات لهيمنة الدولة واعتمادها شبه الكامل على تمويل الخزانة العامة، صعّبت عليها تأمين تمويل لنشاطاتها من مصادر ذاتية مستقلة. أضف إلى ذلك أن عقلية الاعتماد على الدولة، أي العقلية الريعية، السائدة في المجتمع الليبي تساعد على استمرار سعي المجتمع المدني لتأمين تمويل الدولة لنشاطاته، غافلا عن أو متجاهلا القيود التي يفرضها هذا التوجه على استقلالية المجتمع المدني وفاعليته(المغيربي، 2002)

وإذا كانت الانتخابات التنافسية تمثل المظهر الرئيس لمشاركة المواطن الفرد في العملية السياسية، فإن انعدام خبرة المواطن الليبي بهذه العملية، نظرا لأن آخر انتخابات أُجريت في ليبيا كانت انتخابات مجلس النواب عام 1965 أثناء العهد الملكي، ألقت بظلالها على الانتخابات التنافسية المحلية والوطنية التي نُظمت في ليبيا منذ العام 2012، وخاصة في ما يتعلق بحسن اختيار الناخب الليبي لممثليه في المجالس المنتخبة. وعلى الرغم من أن هذا كان متوقعا في ضوء هذه الظروف، وأن اكتساب الخبرة عبر تكرار المشاركة في العملية الانتخابية سوف يُسهم إلى حد كبير في اختيار الممثلين ذوي الخبرة والكفأة بدلا من أن يكون الاختيار على أسس قبلية أو جهوية أو شخصية، فإن سوء أداء المجالس المنتخبة على كل المستويات وعجزها عن حل كل المشاكل الاقتصادية والأمنية، فضلا عن تدني قدرات سلطات الدولة في الاستخراج والتنظيم والتغلغل والتوزيع، إلى جانب صراعات النخب السياسية الحاكمة وانقسامها، انعكس بشكل سلبي على فكرة الانتخابات ذاتها وأدى إلى تنامي مشاعر العزوف عن المشاركة في الانتخابات، بل وتزايد النزوعات إلى رفضها، والدعوة لوجود قيادة سياسية وعسكرية قوية تقود البلاد في هذه المرحلة، وتحولت التوقعات المرتفعة إلى إحباطات متزايدة. وكل هذه مؤشرات سلبية حول احتمالات التحول الديمقراطي وحظوظ التعايش المجتمعي والسياسي.

خلاصة القول:

نتج عن السياسات الريعية للدولة الليبية خلال العقود الخمسة الماضية ترسخ العقلية الريعيةبين مختلف النخب والجماعات التي أصبحت تنظر إلى السيطرة على الدولة بمنطق الغلبة والغنيمة وبوصفها السبيل الوحيدة لتحقيق أهدافها ورغابها على حساب الأفراد والجماعات الأخرى. وكان من الحتمي، نتيجة لذلك، أن صارت العلاقات بين مختلف النخب والجماعات علاقات تصارعية وصفرية، وأصبحت الدولة مركز ومحور الصراع وليس مجرد كونها الهيئة التي تنظم التنافس بين النخب والفئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة وتضبط حدوده وأدواته. وحسبنا للتمثيل على مظاهر انقسام النخبة السياسية في ليبيا أن نذكر التشريعات الإقصائية، كقانون العزل السياسي، وعمليات التخوين المتبادل، والفشل في الاتفاق على السياسات العامة، والمواقف المتضاربة من دمج التشكيلات المسلحة وبناء الجيش والشرطة.

وفي ظل مثل هذه الأوضاع يصبح من الصعب أن يكون هناك اتفاق عام على قواعد العمليات السياسية والالتزام بها، خاصة بين النخب السياسية. ومن غير المحتمل أن تقبل أي مجموعة قواعد العملية الانتخابية إذا كانت هزيمتها تضر بمصالحها ضرراً كبيراً. وهذا يعني أنه إذا كان على الخاسرين القبول بنتائج العملية الانتخابية الديمقراطية، فإنه يتعين على الفائزين أن يقبلوا أن هناك قيوداً مهمة على ما يستطيعون فعله بقوتهم الجديدة. ووفقاً لهذا العامل، يعتمد ترسيخ الديمقراطية على ممارسة الأطراف الفائزة الاعتدال ومراعاة بعض القيود عند وضع السياسات العامة المختلفة. وفي واقع الأمر، يلزم أن يتم الاتفاق على القيود المفروضة على تغيير السياسة العامة قبل اكتمال عملية التحول الديمقراطي، أي أثناء المرحلة الانتقالية(المغيربي والحصادي)

واقع الحال، أن أزمات الهوية والشرعية والتغلغل والتوزيع والمشاركة في حالة ارتهان متبادل، تؤثر وتتأثر ببعضها البعض وتنعكس على عمليات بناء الأمة وبناء الدولة ومن ثم، وبالضرورة، على احتمالات التعايش المجتمعي والسياسي. فمن ناحية، يرتبط الأداء الاستخراجي والتنظيمي للدولة بشكل وثيق مع أدائها التوزيعي، فالدولة لا تستطيع ممارسة وتوسيع قدراتها ووظائفها التوزيعية إلا بالقدر الذي تسمح به قدراتها الاستخراجية والجبائية والتنظيمية. وبدون شك فإن شرعية الدولة ومؤسساتها تتأثر بشكل مباشر بأدائها الاستخراجي والتنظيمي والتوزيعي.

من ناحية أخرى، فإن للشرعية علاقة آصرة مع الهوية من حيث إن شرعية الدولة تتأثر، سلبا وإيجابا، بمدى تشكل هوية وطنية مشتركة تشعر من خلالها كل الأعراق والطوائف والقبائل والمناطق بانتمائها لكيان سياسي واحد يجمعها معا دون إقصاء أو تمييز أو تهميش. وكذلك، فإن تقييد فرص المشاركة في العملية السياسية أو إحساس المواطنين والجماعات بعدم جدواها، نظرا لسوء أداء مؤسسات الدولة وقياداتها ونخبها السياسية ولشعورهم بعدم قدرتهم على التأثير على محتوى واتجاه السياسات العامة، قد يؤدي إلى العزوف عن العملية السياسية، أو الأسوأ من ذلك، توسل العنف ضد الدولة والجماعات الأخرى أداة لتحقيق هذه الجماعة أو تلك. وما يترتب عن ذلك من عواقب سلبية بالنسبة للتحول الديمقراطي والتعايش المجتمعي والسياسي.

______________________

مقالات مشابهة