المركزي يخفض سعر الدينار بواقع 13.3 في المئة ويغير قواعد سياسته النقدية لضبط الاحتياطي المتاح.

من أين تأتون بالنقود للتسوق

اندفع صناع القرار النقدي في ليبيا إلى استخدام سعر صرف الدينار كسلاح لمواجهة التحديات الاقتصادية الهائلة نتيجة للعديد من العوامل، أبرزها الخلل في التوازنات المالية الذي يعود إلى تذبذب أسعار النفط وتجارته وتراجع الإنتاج، فضلاً عن النزاع السياسي والاقتصادي الذي أثر على استقرار البلاد.

قرر مصرف ليبيا المركزي الأحد خفض سعر صرف العملة المحلية كإجراء لتحسين الوضع المالي والضغط على تشوهات الاقتصاد التي أثرت على مظاهر حياة الناس نتيجة شح السيولة النقدية في السوق، وهي خطوة كانت متوقعة منذ فترة.

وجاء هذا التحرك وسط تحذيرات من خطورة الأوضاع الاقتصادية بعد أن بلغ عجز النقد الأجنبي نحو 4.6 مليار دولار في الربع الأول من العام الحالي، رغم أن ذلك يمثل تراجعا بنسبة 19 في المئة على أساس سنوي.

وذكر البنك في بيان أورده على حسابه في منصة فيسبوك أن قيمة الدولار الأميركي تبلغ حاليا 5.56 دينار ليبي، بعد لجوئه إلى خفض قيمته بنسبة 13.3 في المئة.

وسجلت العملة المحلية مزيدا من الانهيار أمام العملات الأجنبية، في تعاملات السوق الموازية، ليبلغ سعر الدولار الواحد في تعاملات الأحد 7.33 دينار.

وبرر ذلك بأنه اضطر إلى إعادة النظر في ضوابط النقد الأجنبي وسعر الصرف بما يكفل “بناء توازنات في القطاعات الاقتصادية” ووسط عجزه عن الحفاظ على استقرار سعر الصرف وزيادة قيمة الدينار نتيجة ضغوط الإنفاق العام، وفق بيان منفصل.

ناجي عيسى: هذه الإجراءات سببها ضعف فرص توحيد الإنفاق المزدوج

ويعتبر خفض سعر العملة توجها إيجابيا لمعالجة بعض المشاكل الاقتصادية مثل العجز في الميزانية، ولكن قد يؤدي إلى تبعات سلبية أخرى مثل ارتفاع أسعار السلع والخدمات. كما أن ذلك قد يثير مخاوف الليبيين، خاصة إذا ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل كبير.

ويقول المحللون إن الخطوات المتخذة تحتاج إلى المزيد من الإصلاحات الاقتصادية الشاملة لمعالجة جذور المشكلات المالية المستمرة نتيجة الانقسام السياسي بالأساس وتوفير استقرار اقتصادي مستدام للبلاد.

ورغم الثروة النفطية الهائلة التي تمتلكها ليبيا، العضو في أوبك، لا تزال أزمة السيولة تلقي بظلالها على الاقتصاد، فمنذ عام 2011 يعاني المواطنون من صعوبة الحصول على رواتبهم وودائعهم، ما اضطرهم إلى الوقوف في طوابير طويلة أمام البنوك.

وسبق أن أشار محافظ المركزي ناجي عيسى إلى أن البنك سيضطر إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات النقدية الحازمة، في ظل ما وصفه بغياب “آمال توحيد الإنفاق المزدوج بين حكومتي شرق البلاد وغربها.”

وتولى عيسى المنصب في أكتوبر الماضي، خلفا للصديق الكبير الذي تمت إقالته بقرار من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي في أغسطس 2024.

وعزا المركزي عجز النقد الأجنبي منذ يناير حتى 27 مارس الماضي إلى وتيرة الإنفاق العام المزدوج، التي ترجع إلى الانقسام بين حكومتين واحدة في شرق البلاد وأخرى في غربها، والتمويل بالعجز، وارتفاع الطلب على النقد الأجنبي، وعجز الإيرادات النفطية عن تغطيته.

وكان العجز خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الماضي قد بلغ 5.7 مليار دولار، بحسب ما تظهره البيانات الرسمية.

وتظهر بيانات الربع الأول لهذا العام أن إجمالي مصروفات النقد الأجنبي بلغ 9.8 مليار دولار، منها مليار دولار نفقات حكومية، بينما بلغت الإيرادات النفطية والإتاوات الموردة للمركزي نحو 5.2 مليار دولار.

ودفع هذا محافظ البنك إلى القول إن الوضع سيزداد خطورة “في حالة انخفاض معدلات إنتاج وصادرات النفط لأية متغيرات أو تدهور الأسعار.”

واتسمت إمدادات النفط بالتقلب منذ الإطاحة بالزعيم الراحل معمر القذافي ما أدى إلى فراغ في السلطة قبل أكثر من عقد وبروز حكومتين متصارعتين.

وتحوز ليبيا أكبر احتياطيات من النفط الخام في أفريقيا، ولكن هذه الصناعة تعد هدفا متكررا للفصائل والراغبين في السلطة الذين يتنافسون على النفوذ السياسي.

وشهد الإنتاج انخفاضا حادا العام الماضي وسط صراع سياسي للسيطرة على المركزي، الجهة القانونية الوحيدة المسؤولة عن إيرادات قطاع الطاقة ودفْع رواتب موظفي الدولة.

وخلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2024 تراجع إنتاج النفط في البلاد بنسبة 8.5 في المئة، حيث انخفض من 1.17 مليون برميل يوميا إلى 0.54 مليون برميل يوميا في سبتمبر.

وبلغ متوسط الإنتاج اليومي للعام الماضي 1.4 مليون برميل، وهو أكثر من المستهدف، بحسب المؤسسة الوطنية للنفط الحكومية. والآن تواجه أسعار النفط ضغوطاً جراء الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الماضي.

وتقهقرت الأسعار إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2021، وفقدت أسعار خام برنت 13 في المئة خلال يومي الخميس والجمعة الماضيين لتصل إلى ما يقل قليلا عن 66 دولاراً للبرميل.

كما أن التوقعات لبقية العام لا تتسم بالتفاؤل، حيث خفض محللو بنك الاستثمار الأميركي غولدمان ساكس غروب توقعاتهم لسعر خام برنت بواقع 5 دولارات إلى 66 دولارا للبرميل.

كما قلصت شركة إنفيروس توقعاتها لنمو الطلب بأكثر من الثلث، فيما خفض بنك يو.بي.أس السويسري، الذي توقع في بداية العام نمو الطلب العالمي بمقدار 1.1 مليون برميل يومياً، هذه التوقعات حاليا بما يقرب من 50 في المئة، حسب ما أوردته وكالة بلومبيرغ.

وساهم التوسع في الإنفاق العام في ليبيا إلى ارتفاع مستوى الدين العام القائم لدى فرعي المركزي في طرابلس وبنغازي ليصل إلى قرابة 270 مليار دينار (56.47 مليار دولار) حاليا، منها 17.57 مليار دولار لدى مركزي طرابلس.

ويُتوقع أن يتجاوز إجمالي الدين 69 مليار دولار هذا العام في ظل “غياب ميزانية موحدة والصرف بنفس وتيرة 2024” ما وصفه المركزي بأنه “مؤشر خطير جداً وغير قابل للاستدامة” ويحدث تشوها كبيرا في مؤشرات الاقتصاد الكلي.

وبهدف تقليص الفجوة بين الطلب والعرض من النقد الأجنبي وعجز ميزان المدفوعات، قال المركزي إنه اضطر إلى استخدام “جزء”، لم يكشف عن قيمته، من احتياطياته لفترة محدودة للمحافظة على استقرار سعر الصرف عند “مستويات مقبولة.”

وكان الهدف من ذلك الحفاظ على أسعار السلع والخدمات والحد من انفلات التضخم وتدهور القدرة الشرائية، لكن المصرف أشار إلى أن استخدام الاحتياطيات غير قابل للاستدامة، ما أجبره على إعادة النظر في ضوابط النقد الأجنبي وفي سعر الصرف.

وفي غضون ذلك أكد المركزي سعيه للحفاظ على الأصول الأجنبية عند مستويات تتجاوز 94 مليار دولار، منها 84 مليار دولار في صورة احتياطيات يديرها.

وأصدرت حكومة الوحدة الوطنية بيانا أكدت فيه أن حجم الإنفاق الموازي الذي تحدث عنه المركزي وتم خارج الترتيبات المالية الرسمية خلال العام الجاري من قبل “الحكومة الموازية” بلغ 59 مليار دينار (12.34 مليار دولار).

وأوضحت أن هذا الإنفاق تجاوز خمسة أضعاف ما خُصص للمشاريع التنموية في الميزانية التي لم تتجاوز 12 مليار دينار (2.51 مليار دولار)، معتبرة أن الإنفاق الموازي هو السبب المباشر في تآكل قيمة الدينار وارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية.

وقالت الحكومة إن “الإنفاق تم دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة وأجهزتها الرقابية، ما أدى إلى تداعيات على الاقتصاد الوطني تمثلت في استنزاف الاحتياطي النقدي، وارتفاع الدين العام، وتراجع قيمة الدينار.”

وجددت دعوتها إلى ضرورة توحيد المؤسسات المالية، والعمل تحت مظلة الدولة لضمان الشفافية والعدالة في توزيع الموارد، وحماية الاستقرار الاقتصادي للبلاد.

وقال عضو مجلس النواب عبدالمنعم العرفي في مقابلة تلفزيونية إن “زيادة سعر الصرف أصبحت ضرورة لمواجهة الإنفاق غير المنضبط من قبل حكومة الوحدة.”

وأضاف “الدبيبة لا يزال يعرقل أي محاولات للإصلاح المالي ويصر على نهج الإنفاق الممنهج دون ضوابط، ومجلس النواب لا يمانع التعاون مع المصرف المركزي في حال تقديم مبررات واضحة لأي تعديل في السياسة النقدية أو في سعر الصرف.”

_______________

مقالات مشابهة