اغتيال الككلي يسرّع بتفكك التوازنات الأمنية الهشة في طرابلس.
لم يكن ما وُصف مؤخرا بعودة النظام إلى ليبيا سوى وهم آخر يتهاوى مع أول اختبار ميداني حقيقي. ففي 12 مايو الجاري، انفجرت في العاصمة طرابلس مجددا موجة عنف غير مسبوقة إثر الأنباء عن مقتل عبدالغني الككلي، المعروف باسم “غنيوة”، قائد جهاز دعم الاستقرار، وأحد أبرز أمراء الحرب في غرب ليبيا.
ولم يكن هذا الحدث مجرد اغتيال لزعيم ميليشياوي، بل هزة عميقة طالت جوهر التوازن الهش الذي حافظ على حالة “اللاحرب – اللاسلم” في البلاد طيلة السنوات الأخيرة.
وسرعان ما تجاوزت الاشتباكات التي اندلعت في طرابلس عقب مقتل الككلي طابع المناوشات التقليدية، لتتحول إلى مواجهة شاملة بين ميليشيات محسوبة على أطراف متنافسة داخل منظومة السلطة في طرابلس، وتحديدا بين فصيل الككلي واللواء 444 المتمركز في مصراتة.
وتحوّلت الأحياء المدنية في أبوسليم إلى ساحات قتال، وعادت الأسلحة الثقيلة إلى شوارع العاصمة، ما أجبر الأمم المتحدة على إصدار تحذير عاجل من مغبة تفاقم الوضع الإنساني، وأعاد إلى الأذهان مشاهد الاقتتال الدموي الذي عصف بليبيا قبل سنوات.
ويقول المحلل السياسي توم كول في تقرير نشره موقع أويل برايس الأميركي إن ما يجري في طرابلس لا يمكن فصله عن طبيعة النظام السياسي – الأمني غير المعلن الذي تشكّل بعد 2015، والذي اعتمد على شبكة من الولاءات الميليشياوية المقنّعة تحت أغطية مؤسسات الدولة.
ولم تبن حكومة عبدالحميد الدبيبة، ومن سبقها، مؤسسات حقيقية بقدر ما استوعبت الميليشيات الكبرى ومنحتها غطاء رسميا وموازنات، لتضمن بقاءها.
ويفتح مقتل الككلي فراغا خطيرا في هذا النظام غير الرسمي، ويهدد بتفكك منظومة “الفساد المتبادل” التي منعت تفجر الحرب الشاملة بين معسكر الغرب بقيادة الدبيبة، والشرق بقيادة قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر.
ولم يخف هذا الأخير طموحه في مد نفوذه إلى طرابلس، وقد يجد في الفوضى الحالية فرصة لمدّ أذرعه عبر تحالفات محلية أو تدخل غير مباشر.
وفي خضم هذا التوتر، مرّ حدثٌ آخر دون الكثير من الانتباه وهو أوامر النيابة العامة الليبية باعتقال قيادات شركة “المدار” للاتصالات، وهي الأكبر في البلاد.
وبينما تم تقديم الخطوة على أنها حملة ضد الفساد، فإن دلالاتها السياسية واضحة. إذ تأتي في سياق محاولات الدبيبة لإحكام قبضته على مفاصل السلطة والنفوذ، لاسيما في القطاعات الحساسة كالاتصالات، التي قد تمثل وسيلة ضغط أو اختراق للمعسكر المناوئ في الشرق.
وقد بات من الواضح أن كل مؤسسة في ليبيا لا تُفهم بوظيفتها الطبيعية، بل باعتبارها رافعة في الصراع على السلطة والثروة، وميدانا من ميادين الحرب الباردة بين الطرفين.
وانعكس هذا التوتر الهيكلي بشكل مباشر على قطاع النفط، الذي يُفترض أنه شريان الحياة الوحيد المتبقي في الاقتصاد الليبي.
وتجد الشركات العالمية، التي عبّرت عن حماسة مشروطة للاستثمار في ليبيا ضمن خطة طموحة لرفع الإنتاج إلى 1.3 مليون برميل يوميا، نفسها الآن أمام معضلة متزايدة التعقيد. فكل منشأة نفطية في البلاد، من الحقول إلى المصافي إلى موانئ التصدير، تقع ضمن مناطق نزاع محتملة أو واقعة تحت سيطرة ميليشيات لا تنضوي في جهاز مركزي حقيقي.
ولا يملك أيّ طرف قدرة كاملة على تأمين بيئة تشغيلية مستقرة أو آلية توزيع عادلة للعائدات، ما يجعل أيّ تفاؤل استثماري ضربا من المقامرة.
توتر كبير
وما يزيد الصورة تعقيدا هو البعد الدولي المتزايد الذي يتخذ أشكالا متعددة، في طليعتها الدور الروسي المتنامي في الشرق الليبي.
وبعد إعادة هيكلة الوجود العسكري لمجموعة فاغنر، تعمل موسكو اليوم على تمكين بنيتها الأمنية والاقتصادية بالتنسيق مع حفتر، في سياق يتجاوز مصالح النفط، إلى التمركز الإستراتيجي على الضفة الجنوبية للمتوسط.
وإذا ما استمرت روسيا في هذا النهج، فإنها لن تكتفي بتأمين نفوذها في شرق ليبيا، بل ستعمل على فرض وقائع جديدة تمسّ الأمن الأوروبي نفسه، ما يجعل من ليبيا ساحة تنازع جيوسياسي جديد، لا يقل أهمية عن أوكرانيا أو الساحل الأفريقي.
وفي المقابل، يزداد الغياب الأميركي وضوحا. وتبدو واشنطن، المنخرطة في ملفات ثقيلة من شرق أوروبا إلى غزة، عاجزة أو غير راغبة في صياغة سياسة فعالة تجاه ليبيا.
وحتى الاتفاقات التي تسعى إليها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجديدة تتعلق بقضايا جانبية، مثل ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ولا تعكس رؤية إستراتيجية لإدارة التنافس على الأرض الليبية. وهو ما يترك فراغا تملؤه قوى إقليمية ودولية، كل بحسب مصالحه وموقعه في الصراع.
وليبيا اليوم ليست دولة تنهار، بل هي مشروع دولة لم يكتمل أصلا، يتحلل على وقع صراع معقد بين ميليشيات، قبائل، وشبكات مصالح محلية ودولية.
وكل محاولة لقراءة المشهد من زاوية “الاستقرار النسبي” هي تجاهل لحقيقة أن هذا الاستقرار كان دوما مؤقتا، ومرهونا باتفاقات غير معلنة بين أمراء الحرب.
ومع تفكك هذه الاتفاقات، وسقوط بعض رموزها كغنيوة، فإن البلاد تدخل مرحلة جديدة من إعادة الاصطفاف، حيث لا يبدو أن هناك جهة قادرة على احتكار القوة، أو فرض تسوية شاملة، دون المرور بحلقة أخرى من العنف.
_______________