بقلم أحمد الرشيد، وعماد دخيل، وحكمت صبرة

تعد التعددية الحزبية ظاهرة حديثة العهد في الأنظمة السياسية المعاصرة، وقد أضحت ـ أحد مقومات العملية الديمقراطية في العالم اليوم، إذ لا تستقيم الديمقراطية النيابية إلا بوجود تعددية حزبية.

الجزء الثالث

المحور الرابع: الثقافة السياسية الشائهة

دأب النظام السياسي السابق على إخضاع كل ما يخص الأحزاب السياسية سواء في المناهج الدراسية، أو المساجد، أو وسائل الإعلام وشبكة المعلومات الدولية إلى الرقابة الشديدة والصارمة، بحيث يمنع كل ما يخالف رؤية النظام الرسمية ومواقفه من هذه الظاهرة.

وهو ما أسهم في جعله يتخذ وضعا انغلاقياً تجاه كل وافد ثقافي جديد بوصفه أنه غزو ثقافي ومؤامرة خارجية وجب محاربتها بشتى الوسائل، وبذلك فقد سيطرت أيدويوجيا طوباوية وصفت بأنها الحل النهائي لجميع مشاكل وقضايا الشعوب السياسية والإقتصادية والاجتماعية.

وفي واقع الأمر ارتبطت هذه الأيديولوجية بشخص تولى السلطة وتمكن من خلال نظام أمني من إزاحة جميع منافسيه سواء العسكريين منهم أو المدنيين وفي مقدمتهم الحزبيين.

تُعد المدرسة الأولى بعد الأسرة التي يرتبط بها الفرد في حياته، فقد كانت وما زالت من أهم أدوات التنشئة السياسية الرسمية، وذلك من خلال المناهج الدراسية والبيئة المدرسية بما تتضمن من قيم وأفكار تؤثر في سلوك الأجيال الشابة ومعتقداتها.

لقد خضعت المناهج الدراسية في مؤسسات التعليم في ليبيا لرقابة مشددة من الدولة، بحيث تكيفت هذه المناهج مع رؤية النظرية العالمية الثالثة التي رفعت شعار “الحزبية إجهاض للديمقراطية” و “من تحزب خان“.

لقد تناولت المناهج الدراسية وخاصة منهج الوعي السياسي والفكر الجماهيري في جميع مستويات التعليم بالتأكيد على ضرورة بنذ الحزبية لأنها أداة دكتاتورية لا تختلف عن الطائفة أو القبيلة أو الطبقة.

أما المساجد، فقد خضعت هي أيضاً لرقابة مشددة وتتبع أهميتها من دورها الجوهري في التنشئة السياسية، ويحيط الليبيون المساجد بهالة من القداسة، الأمر الذي مكنها من التحكم في سلوك الأفراد وإجماعهم على دعمها.

وفي هذا السياق اهتم النظام السابق بخطة الجمعة التي تخضع لتوجيهات إدارة الأوقاف المساجد، فعمل على تحديد موضوعاتها بشكل دقيق لتتوافق مع رؤيته وتوجهاته المناهضة للأحزاب السياسية، بحيث يتقيد الخطيب بالخطوط المرسومة له، وإلا يستعبد من الخطابة.

إلى جانب ذلك يوجه خطباء المساجد في دعائهم بالناس على ضرورة نبذ الأحزاب السياسية باعتبارها مبعثاً للتجزئة والفرقة والشقاق بين الناس، إذ يلاحظ أن أغلب هؤلاء الخطباء لا يتوفقون عن الدعاء في خطبهم على مهاجمة الحزبيين والعلمانيين كقولهم “اللهم عليك بالحزبيين والعلمانيين“.

تؤثر وسائل الإعلام بشكل كبير في عملية التنشئة السياسية، فاستخدامها من شأنه إحداث تغيرات في إدراكات الأفراد وفي سلوكياتهم السياسية، فهي تعدّ مصادر رئيسة في عملية التنشئة السياسية.

لقد غضعت هذه الوسائل خلال حقبة النظام السابق لرقابة السلطة السياسية التي تعمل على إخضاع جميع البرامج المرئية والمسموعة، وكذلك الصحف والمجلات لمتابعة أمانة اللجنة الشعبية للإعلام والثقافة.

كما أخضعت الحكومة الليبية ـ خاصة في حقبة الثمانينيات والتسعينيات ـ رقابة صارمة على شبكة المعلومات الدولية، فبعض المواقع بما في ذلك مواقع المعارضة غير متاحة، فملكية الحواسيب تستلزم تصريحا رسميا من الدولة قد يستغرق بعض الوقت.

لقد استفاد النظام السياسي من حالة اقتصاد الريع وأن يتحرر من أي ضغوط في عملية توليد مصادر الدخل والتأثير على عناصر الإنفاق وفي الإيرادات من العملات الصعبة، بحيث تمكّن النظام السياسي من إهمال ضغوط دافعي الضرائب لعدم فعاليتها أصلاً، فطبيعة الريع سابقة لوجود النفط في البلاد، حيث استفاد النظام الملكي خلال الفترة (ذ951-1963) في توزيع ما توافر له من تأجير القواعد الأجنبية وما يتحصل عليه من المساعدات والهبات الخارجية، وتغير الوضع بعد اكتشاف النفط وتصديره بكميات تجارية في عام 1963 ليصبح الاعتماد شبه كلي على عائدات النفط بعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط في السوق العالمية كنتيجة لحظر النفط الذي واكب حرب اكتوبر في عام 1973 بين العرب واسرائيل.

لقد مكّنت عائدات النفط الهائلة النظام السياسي في ليبيا خلال الفترة (1974-2010) من الخوض في تجارب سياسية واقتصادية ومغامرات عسكرية خارجية عديدة ما كان لها أن ترى النور لولا طبيعة الاقتصادي الأحادي الجانب وما توافره ريوع النفط من عائدات مالية هائلة.

لقد انعكس تشوّه التنشئة السياسية سالف الذكر في ثقافة سياسية شائهة تمثلت في انخفاض نسبة عضوية الليبيين في الأحزاب السياسية وتدني ثقتهم فيها، حيث أظهرت نتائج المسح القيمي الذي أجراه مركز البحوث والاستشارات بجامعة بنغازي مطلع 2014، تحت إشراف مؤسسة المسح العالمي للقيم، تدني عضوية الليبيين في الأحزاب السياسية، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم في البلدان العربية الأخرى التي مرت بانتفضات شعبية في عام 2011، ويعكس ذلك بجلاء عدم الثقة في الأحزاب السياسية، حيث سجل مؤشر الثقة في الأحزاب السياسية عند الليبيين نسبة 6%، وتعد هذه النسبة متدنية مقارنة بالمصريين الذين بلغت عندهم هذه النسبة 19.9 %، وعند اليمنيين بلغت هذه النسبة 8.3%، وتدنت هذه النسبة عند التونسيين إلى 3.1%.

ويتبين من الاستطلاع السابق أن خمسة من عشرة ليبيين (55.1%) يرون أن النظام السياسي الذي يسمح فيه للأحزاب السياسية بالتنافس ليس مناسبا لليبيا، وسبعة من كل عشرة ليبيين (77.3%) غير راضيين عن أداء الأحزاب السياسية، وثمانية من كل عشرة ليبيين (77.5%) يرون بأنه يجب أن لا يكون للأحزاب السياسية أي دور في مستقبل ليبيا.

وفي المجمل تعكس هذه الإستبانة نظرة سلبية للأحزاب السياسية، أساسها الثقافة السياسية الشائهة تجاه الأحزاب السياسية التي تكونت بسبب تشوّه التنشئة السياسية من جهة، وحداثة التجربة الحزبية من جهة أخرى.

ملاحظات ختامية:

لم تكن الأحزاب السياسية التي عرفها الليبيون بعد الاستقلال نتاجا لحراك اجتماعي داخلي بقدر ما تمثل استجابة لمؤثرات خارجية، حيث ارتبط أغلب هذه الأحزاب بأخرى خارج البلاد حيث ترعرعت في ظروف مغايرة وتعبّر عن احتياجات تعكس البنية الاجتماعية والاقتصادية والحضارية لتلك المجتمعات، ممأ أفرغ التجربة الحزبية في ليبيا من أية مضامين وطنية ولا تعكس مصالح القوى الاجتماعية والاقتصادية الداخلية.

لقد اتضح من خلال هذه الدراسة أن هناك رفضا دائما للظاهرة الحزبية في ليبيا خلال تاريخها الحديث والمعاصر، فعندما فشل الأمير محمد إدريس السنوسي في إخطاع الحركات والتنظيمات السياسية لسلطته ومحاولة تطويعها لكي تتوافق مع برنامجه السياسي حلها جميعا، ثم عمل على تشكيل تنظيم واحد باسم المؤتمر الوطني.

وبعد الاستقلال قام بإلغاء الأحزاب السياسية وحظر تكوينها عندما أصدر مجلس الوزراء ـ وبعد التشاور مع الملك ـ قراراً إدارياً ألغى بموجبه جميع الأحزاب السياسية ومنع قيامها بشكل نهائي.

كما بينت الدراسة اتفاق رؤية كلا النظامين، النظام الملكي ونظام القذافي في رفض الظاهرة الحزبية، ولكنهما يختلفان في طريقة التعامل معها وسبل مواجهتها.

ففي حين استخدم النظام الملكي (1951-1969) القوة الناعمة في تعامله مع التنظيمات والقوى الحزبية، بحيث لم تتجاوز عقوبة التأسيس والإنتماء للأحزاب السياسية الحبس لبضع سنوات، فقد استخدم نظام القذافي (1969-2010) الوسائل المتاحة في التعامل مع الأحزاب السياسية كافة، وصلت إلى حد الإعدام مع العناصر الحزبية التي لا تتفق مع رؤيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجسدت في مقولات الكتاب الأخضر.

لقد أحدثت الطريقة التي تعامل بها كلا النظامين مع الظاهرة الحزبية والحزبيين ثقافة سياسية شائهة تجاه الأحزاب السياسية، إذ لم يعرف الليبيون ثقافة سياسية تعكس أهمية الأحزاب السياسية في العملية السياسية، ولم يسمح لهم أصلا بأن ينضموا إلى أحزاب سياسية، بل استخدمت جميع وسائل التنشئة وقنواتها لرفض الظاهرة الحزبية، فكيف لهم ذلك بحيث يعاقب كل من يتهم بالإنتماء أو تشكيل حزب سياسي بأحكام مشددة تصل إلى حد الإعلام.

***

د. أحمد الزروق أمحمد الرشيد ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي

أ. عماد مفتاح فرج دخيل ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي

أ. حكمت أحمد رجب صبرة ـ استاذ العلوم السياسية المساعد، كلية الاقتصاد، جامعة بنغازي

***

المصدر: مجلة العلوم السياسية والقانون : العدد الثالث عشر يناير – كانون الثاني 2019 – المجلد الثالث. وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن المركز الديمقراطي العربي المانيا– برلين، تُعنى بالدراسات والبحوث والأوراق البحثية في مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والقانون والسياسات المقارنة، والنظم المؤسسية الوطنية أو الإقليمية والدولية.

______________

مقالات مشابهة