المساهمة العملية للأحزاب السياسية

إن بداية الأحزاب كانت ذات نشأة برلمانية، و جاءت نتيجة لثورات قادتها الأمم من أجل التعبير عن خياراتها و مشاركتها في الحكم و التخلص من الاستبداد، و كان لكل ثورة أو مرحلة من مراحل تطور المجتمعات، خاصة على المستوى الاقتصادي، دور بارز في بلورة التشكيلات السياسية التي عرفت فيما بعد بالأحزاب السياسية، فبروز هذه الأخيرة بشكل واضح أدى إلى ما يعرف بـ الديمقراطية التمثيلية التي من خلالها يعطي الموطنون وكالة للبعض منهم عن طريق الانتخاب لممارسة السلطة نيابة عنهم، و هذا يعبر عن تطور كبير في الديمقراطية.

فسابقا في العصر الإغريقي كانت هناك جمعيات سياسية تمثل طبقات اجتماعية معينة –نبلاءأرستقراط وهو ما أدى لإفراز الديمقراطية المباشرة المقتصرة على الطبقات العليا فقط من المجتمع دون باقي الطبقات، لكن ومع تطور المجتمعات و توسع الطبقة البرجوازية، و تطور النظام الليبرالي والسماح بالحرية أدى لبروز تشكيلات متعددة ساهمت في ظهور ما يعرف بـ الديمقراطية الليبرالية ، التي فعلتها الأحزاب ذات النشأة الداخلية البرلمانية.

ومع بروز الفكر الاشتراكي أدى إلى ظهور الأحزاب الاشتراكية التي تنادي بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية أي لا يكون المواطنون أحرارا إلا إذا توافقت مشاركتهم في السلطة بنشاط السلطة نفسها، يرمي إلى تحريرهم من التفاوتات الاقتصادية و الاجتماعية، و تتمثل في مجموعة الإجراءات الرامية لتصحيح كل ما هو نظري في الديمقراطية الليبرالية عن طريق تدخل الدولة، هنا وجود حزب واحد مسيطر على النظام أدى إلى بروز نوع أخر من الديمقراطية .

إلا أن و مع تطور التقنية الاتصالية في عالم الحداثة و سهولة انتقال المعلومة بين الأفراد من مختلف مناطق العالم أدى إلى بروز أحزاب على المستوى الدولي و كذا الإقليمي، كما هو الحال على مستوى الاتحاد الأوروبي، و هو ما ساهم في بلورة نوع جديد من الديمقراطية قائمة على الحاسوب و شبكة الانترنيت، كمصدر لإجراء الانتخاب دون الحاجة إلى الانتقال على مراكز مخصصة أو الحضور المباشر كما كان سائدا قديما و هو ما أدى لبروز مفهوم الديمقراطية الإجرائية .

طُرح المفهوم في سنة 1984 ومن خلاله اتضح أن الأنظمة الديمقراطية القائمة حاليا لا تنضوي إلا على مجموعة إجراءات وسائلية تحط من قدر الديمقراطية باعتبارها قيمة أو مشروع.

ومنه فالتعددية الاجتماعية سمحت منذ وقت مبكر بظهور الطبقات الاجتماعية و البرلمانات والمؤسسات الأخرى، و هذه الأجهزة وفرت أشكالا من التمثيل الذي تطور إلى مؤسسات ديمقراطية حديثة ساهمت في توسيع المشاركة السياسية، و من ثم تفعيل أكثر للديمقراطية .

من خلال النشأة الداخلية للأحزاب، لوحظ دخول بعض الهيئات في تكوين اللجان الانتخابية و منها الجمعيات الفكرية و النوادي الشعبية، و من أمثلة ذلك: – دور جماعات المثقفين و اتحادات الطلاب وما قامت به في أوروبا خلال القرن التاسع عشر(19م) في إنشاء أحزاب متعددة ، التي أدت بدورها لإنشاء أحزاب اليسار، كما لعبت الكنيسة والجماعات الدينية دورا بارزا في إنشاء الأحزاب الكاثوليكية .

فظهور الأحزاب السياسية ونشأتها التاريخية العلمانية و ذلك لأن الناس سئموا من استبداد الكنيسة ورجالاتها و مواقفها السياسية و أرائها الفكرية و نظرياتها البعيدة عن الواقع و قد ثار الناس ضد رجال الدين المسيحيين الذين كانوا يجبرون الناس بالقوة على قبول أرائهم الباطلة غير المنسجمة مع الحياة و التطورات البشرية ،

فبعد إخفاق الصياغات الدينية المتعسفة التي كانت تحكم المجتمعات الغربية ،ولدت أحزاب سياسية كردة فعل على تصرفات الكنيسة ، و طالبت بفصل الدين عن السياسة فكان الحزب هو المتنفس الوحيد للتعبير عن آراء و مواقف و نظريات السياسة ، كما أن التقدم الصناعي و التطور الاقتصادي والنهضة الحديثة في جميع مجالات الحياة ساهم في 2 تكوين و نشوء الأحزاب السياسية .

إن العامل الجغرافي و المهني سمح بخلق تجمعات ناتجة عن الانتماء لمنطقة أو وظيفة واحدة ، و هذا سمح بخلق مصالح مشتركة بين أعضاء في بعض المجالس النيابية الأوروبية فهذا النوع من الانتماءات ساهم بشكل كبير في إنشاء الأحزاب السياسية ، وكان أبرز مثال لذلك في المجلس التشريعي الفرنسي في أواخر القرن الثامن عشر18 .

ففي ذلك الوقت، أخذ نواب المناطق الريفية بالذات في إقامة تكتلات على أساس جغرافي للدفاع عن مصالح المقاطعات المختلفة. كما أن الاتصال المستمر بين الكتل البرلمانية المتشكلة داخل المجالس النيابية، واللجان الانتخابية هو ما ولد أحزاب سياسية، ساهمت في تشكيل المجالس النيابية التـي تزايدت أهميـتها وصارت تمثل سلطات تشريعية ،تتمتع باستقلالية و هو ما أدى لنشوء نظم ديمقراطية فعلية .

فالديمقراطية اليونانية كانت ديمقراطية مقتصرة على طبقة معينة ، وتلتها مراحل من الاستبداد بالحكم إلى أن برزت الثورات الفكرية التحررية في أرويا و أدت لتشكل التمثيليات المختلفة التي تطورت في تركيبتها إلى أن تم تشكيل الأحزاب السياسية ، كتنظيم مهيكل يسير الحياة السياسية و ينظم من خلالها ممارسة السلطة، وهو ما أدى لبروز النظم الديمـقراطية فـي أوروبـا ، ومن ثم امتدادها إلى باقي المناطق في العالم ، من خلال ما يعرف بموجات التحول الديمقراطي حسب هنتغتون، فالديمقراطية لم تكن ممارسة تشير إلى التطبيق الفعلي للمفهوم إلا بعد تشكل الأحزاب السياسية، التي جسدت التمثيل الشعبي، و مشاركة كل الطبقات في الحكم إما من خلال تكوين أحزاب تعبر عن مطالب شعبية، أو من خلال مشاركة الشعب في الانتخابات التي تحدد الحزب الذي يصلح لاعتلاء سدة الحكم ، و يعكس معظم التوجهات الشعبية .

وفي صون وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وتحقيق ديمقراطية الشعب يجب العمل على تشكيل حكومة من اختيارهم، والطريقة الرئيسية للقيام بذلك هي من خلال الأحزاب السياسية والمنظمات الطوعية التي تربط بين الشعب وحكومته. فهي تجند المرشحين للانتخاب منهم في المناصب العامة ،والتي تعبئ الناس على المشاركة في اختيار قادةالحكومة. فمن خلال الأحزاب تجسدت وسائل التغيير وعدم السيطرة على الحكم،و صارت المنافسة بين الأحزاب السياسية ليست معركة من اجل البقاء ، ولكن المنافسة على خدمة الشعب .

علاقة الأحزاب السياسية بالمجتمع

نتيجة ما سبق عرضه ، فإن انعكاسات الواقع التنظيمي والسلطوي داخل الأحزاب السياسية سينعكس بدوره على العلاقة بين الأحزاب والمجتمع، والتي هي علاقة محدودة وأصبحت تبنى على أسس مصلحية وانتخابية، من خلال ممارسات القبلية والجهوية والزابونية في الانتخابات.

ونتيجة لذلك فقد المجتمع خصوصا في أوساط المدن عالية الكثافة الأمل من الأحزاب السياسية والتغيير عبر صناديق الاقتراع من خلال الارتفاع المتواصل في نسب المقاطعة الانتخابية في أوساط المدن، والإقبال على النشاطات السياسية . وقد تبلورت توجهات بديلة في المجتمع تنفر من العمل الحزبي والسياسي باللجوء إلى العمل في جمعيات المجتمع المدني.

ضعف الصلة بين الأحزاب السياسية والمجتمع جعل الأحزاب السياسية تبتعد عن أداء وظيفتها الأساسية المتمثلة في الوساطة بين المجتمع المدني والسلطة أو ما يسمى بالوظيفة المنبرية للأحزاب السياسية لإيصال الأصوات المحتجة والمعارضة إلى السلطات، وبدل ذلك أصبحت امتدادا للإدارة الحكومية وامتداد للسلطة، مما افقدها الكثير من المصداقية أمام الناخبين والمتعاطفين.

هذا يبرز من خلال خروج الأحزاب السياسية وتجاوز الأحداث لها أو عدم قدرتها على الاستجابة للمطالب التي يعبر عنها المواطنون في العديد من المناسبات، من خلال العديد من مظاهر الاحتجاجات الاجتماعية والتي اتسمت بالعنف التلقائي، بل إن هذا العنف والسخط أتجه بدوره إلى الأحزاب السياسية مثل ما حدث من حرق مقرات أحزاب الارسيدي والأفافاس في منطقة القبائل رغم أنها تمثل معقلا لها.

دينامية العمل الحزبي وتفعيل التحول الديمقراطي:

اكتسى العمل الحزبي والتعددية في الحياة الاجتماعية والسياسية أهمية بالغة في مسار التنمية السياسية وتحقيق التنمية الشاملة للدول والمجتمعات. فعلى الصعيد المجتمعي والسياسي نجد أن للأحزاب وظائف وأهداف عدة تؤدي في إطار إستراتيجية دينامية تصنعها الحياة السياسية والمعاركة الانتخابية التي تنخرط فيها الأحزاب و هذه الوظائف هي:

أولا: الأحزاب كآلات انتخابية :

ويعد المظهر الأكثر وضوحا لنشاط هذه الأحزاب في الأنظمة الديمقراطية التعددية، بحيث تعمل الأحزاب في هذا الإطار على انتقاء المرشحين للانتخابات(الوطنية والمحلية ) وتعد هذه أهم وظيفة لها، ويشكل الدخول في المعترك الانتخابي الفيصل بينها وبين جماعات المصالح ، وتتنوع إجراءات انتقاء المرشحين بحسب الأنظمة الداخلية للأحزاب التي تعطي للأعضاء حقوقا متفاوتة الاتساع؛ إذ تكون تلك الإجراءات محددة بدقة في الأنظمة الداخلية للأحزاب ذات البنية القوية في حين تكون بطرق اختيار لا شكلية تصادق عليها القيادة في أحزاب الأطر ونقابات المنتخبين، وتتمثل الوظيفة الثانية في هذا الإطار فيتعبئة الدعم بغية توفير أفضل الشروط للمعترك الانتخابي، و هنا تبدو قوة التنظيم الحزبي من حيث التدعيم المادي الخاص بالحزب للمرشح , فضلا عن الإعانات الاستثنائية التي تجمع أثناء الحملة الانتخابية، وترويض النشاطات الدعائية كتوزيع المنشورات والصحف والملصقات وغيرها، وتكمن الوظيفة الثالثة في اختيارالقادة الوطنيين وهي عملية مشروطة للوصول إلى السلطة.

و تعد ظاهرة التحالف والائتلاف بغية الوصول إلى الأغلبية الانتخابية ومن بعدها الأغلبية البرلمانية سمة النظم التعددية الحزبية، وتتأثر استراتيجيات التحالف بالغرب السياسي وما يفرزه من ثنائية (شركاء، خصوم ) وهذا يزيد من إمكانية دمج أكبر للأحزاب الأكثر تقاربا سياسيا في المسرح الانتخابي.

ثانيا: الأحزاب كحلبات للجدل :

تسهم الأحزاب دائما في تكوين الإرادة العامة من خلال التأثير على الرأي العام وتوجيهه بفضل ما تثيره من مجادلات، سواء كانت هذه الأخيرة داخلية بحيث تسمح للقاعدة الحزبية بإعلان موقفها من خط الحزب، أو داخل المؤسسات البرلمانية ,حيث تتجابه الأغلبية والمعارضة ويكون الرهان المباشر حول مراقبة النشاط الحكومي، كما قد تتجلى أيضا في المشاهد الإعلامية . ومن خلال هذه المجادلات تؤخذ بعض التوقعات التي يشاع أنها صادرة عن المجتمع على عاتق الأحزاب كمطالب صريحة أو استياءات وآمال عددية الأشكال ومائعة وغير مصاغة بشكل دقيق لشرائح المجتمع، هذا فضلا عن الاضطلاع باهتمامات الناخبين حول القانون الانتخابي والأعضاء والقادةالخ

وتؤخذ التوقعات الاجتماعية عموما من خلال الإعداد الإيديولوجي والمذهبي الهادف إلى إرساء أسس شرعية لمشروع مجتمعي واسع، ويعد بمثابة المشروع الذي يقدم الأجوبة الحقيقية على أسباب تلك الاستياءات , وهذا ما يظهر جليا في الأحزاب الإيديولوجية أكثر من غيرها لاعتمادها على المذهبية والمرجعية النظرية.

ثالثا: الأحزاب كأدوات للتكيف الاجتماعي :

إذ يعد المذهب والبرنامج وحتى مواضيع الحملة الانتخابية نقلا فعليا لرسائل تستخدم كمرجع مشترك ليس لأعضاء الحزب فحسب، بل لناخبيه والمتعاطفين معه أيضا على مختلف شرائحهم ومستوياتهم ونماذجهم، فالمراهنة على قضايا كالحرية والتضامن وحقوق الإنسان تخلق الشعور بوجود تضامنات أفقية تتجاوز الفوارق العمرية والطبقية، والمحلية أو الجهوية وتشجع بشكل أكبر التكامل الاجتماعي، وهذا ما يجعل دينامية الجدل السياسي بين الأحزاب يكون بمثابة المحرك الذييستفز المواطنين للدخول في الحياة السياسية، ولأن هذا الجدل لا يمكن أن يكون عمليا إلا في إطار العملية التنافسية نجد الأحزاب تسلم بمنطق الانتخاب العام والشامل وتقبل بمبدأ الأغلبية وتعترف بشرعية المنتخبين في المجتمع، ولهذا فإن الدعوة العامة للمشاركة في الاقتراع توطد الصور التي تجعل من المواطن الحر والمسؤول قاعدة البناء الديمقراطي.

______________

نقلا (بتصرف) عن هذا المصدر 

 

مقالات مشابهة