لقد عانت ليبيا من نظام استبدادي قمعي، كرّس سياسات عقيمة أدت إلى إحداث فُرقة وانقسام وشروخات عميقة بأطياف المجتمع الليبي، وعندما قامت ثورة فبراير عليه من أبناء الشعب الليبي، أبى أن يترك سدة الحكم إلاّ على أجساد آلاف الضحايا والمصابين.

هذا وقد أصدر المجلس الوطني الانتقالي القانون رقم 17 لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية. ولكن وبعد عقد من النزاعات والصراعات ظلت مسألة المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية مجرد ورقة للضغط السياسي مما أدى ألى المزيد من الانتهاكات في الحقوق والحريات بالإضافة إلى تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب .

ونرى أن قضية المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لم تتحقق حتى الآن بسبب عدم تحقيق قواعدها وشروطها وآلياتها، والتي من أهمها القواعد التالية:

أولا: الاتفاق على الثوابت الوطنية

إن أخطر ما يواجه المجتمعات التي مرّت بأحداث الثورات والصراعات والحروب الأهلية هو الانقسام الحاد بين مكونات المجتمع على نحو يصعب معه الاتفاق على التوابث الوطنية والتوافق على الأمور الأساسية التي تمهد للمصالحة الوطنية.

لذلك فمن أولى الخطوات التي ينبغي اتخاذها تحديد الثوابت الوطنية وضمان اتفاق كافة أطراف المصالحة عليها.

ثانيا: إعلاء مصلحة الوطن والنأي عن الأهواء الشخصية

لبلوغ المصالحة الوطنية، يجب على جميع الأطراف السياسية التمسك دائما بتغليب المصلحة الوطنية والنأي عن الأهواء الشخصية، والابتعاد عن المكابرة والمغالبة التي تسوّغ الثأر والانتقام والتشفي، والإعراض عن التخوين واستحضار النية الصالحة بهدف إصلاح ذات البين، وبلوغ المسار الصحيح للديمقراطية.

ومن المهم أيضا عدم السماح لأطراف أجنبية بالتدخل لدعم طرف على حساب طرف آخر من ناحية، ومن ناحية، ومن ناحية أخرى تجنّب الاستقواء بالدول الأجنبية.

ثالثا: إجراء المصالحة في مناخ من الشفافية وسيادة القانون

من المهم الاضطلاع بإجراءات المصالحة في مناخ تسوده الشفافية بحيث يطلع أفراد المجتمع على جهود المصالحة بصورة تسمح لهم بتبيّن أطرافها وأهدافها.

ومن المهم أن تجري عملية المصالحة في مناخ تسود فيه سيادة القانون. بحيث تتساوى الأطراف طالما جلست إلى مائدة الحوار، وعلى نحو يطبّق فيه القانون على الجميع دون تمييز.

رابعا: تحري الحقيقة كاملة وكشف المظالم لضمان عدم تكرار الانتهاكات

من أهم أهداف العدالة الانتقالية ـ التي يجب أن تجرى في ظلها أي جهود للمصالحة الوطنية ـ توثيق الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تم ارتكابها في حق الوطن والمواطنين وغيرها من صور إساءة استعمال السلطة، وكشف حقيقتها، وتحديد المسؤولين عنها، وإعلام المواطنين بها، إذ أن هذه المقاربة تضمن نقل رسالة واضحة إلى المجتمع بأن مرور الزمن لم يشكّل عقبة في سبيل الكشف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أو غض الطرف عنها، بما يمهد الطريق لطي صفحة الماضي بما انطوت عليه من أحداث جسام وإرث متراكم من انتهاكات حقوق الإنسان، لأن غلق الملفات دون إظهار الحقيقة يفتح باب الثأر والانتقام ويزيد من التوتر والاحتقان.

كما أن كشف الحقيقة يسهم في فضح انتهاكات وتجاوزات الماضي، ومن ثم في مواجهتها أو الصفح عنها بما يحقق قدرا من الرضا لدى المواطن العادي يسهم في بلوغ المصالحة الوطنية.

خامسا: التركيز على حقوق الضحايا

من المهم أن تتوخى جهود المصالحة الوطنية دائما إعلاء حقوق الضحايا، فلا تضحى بها في سبيل تحقيق أهداف أو مصالحة سياسية، ويجب أن تعمل سلطات الدولة وكافة أطراف المصالحة الوطنية على ضمان حق الضحايا في جبر أضرارهم.

سادسا: تطبيق مبدأ التضمينية بالعمل على تمثيل مصالح كافة أطياف المجتمع

من أهم قواعد المصالحة الوطنية أنها تطبّق ـ بطريقة غير مباشرة ـ مبدأ التضمينية وهو يُعدّ من أهم مبادئ الحكومة وقيمها، باعتباره يعمل على مشاركة الأطراف المعنية من المجتمع دون إقصاء أو تهميش أو استبعاد، وتمثيل مصالح كافة أطياف المجتمع في الحوار الوطني، وخطوات إعادة بناء مؤسسات الدولة.

وميزة إشراك أطياف المجتمع على هذا النحو في عملية المصالحة أنها تبني هذه العملية على أساس مجتمعي راسخ من القاعدة إلى أعلى بدلا من فرض المصالحة من أعلى إلى أسفل عن طريق الحكومة أو النخبة.

سابعا: الإصرار على مبدأ عدم الإفلات من العقاب

قد تتم المصالحة الوطنية في ظروف تكتسي بالعباءة السياسية بما قد يؤثر سلبا على أسس العدالة، ويسمح في بعض الأحيان بالتغاضي عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، أو العفو عنها بدون شروط، وهو الأمر الذي استهجنته منظمة الأمم المتحدة في العديد من الوثائق الصادرة عنها في مجال العدالة الانتقالية، إذ أن من شأن ذلك تكريس سياسة الإفلات من العقاب.

ثامنا: إتباع إطار مؤسسي شامل للمصالحة

إن أجراء تحقيق المصالحة والوفاق يجب أن تتم وفقا لمنهج علمي وطريقة مدروسة تتولاها هيئات أو مفوضيات متخصصة ومستقلة تعمل من خلال استراتيجية وطنية شاملة وقوانين حديثة تحدد آليات العدالة الانتقالية واجبة التطبيق وإجراءات المصالحة الوطنية واجبة الاتباع وطبيعة واختصاصات الجهات القائمة عليها.

ووجود إطار قانوني ينظم هذه الإجراءات يُسهم في تحديد الخطوات المتطلبة لبلوغ المصالحة الوطنية، بما يضفي على الإجراءات صفة الشرعية ويحيط الإجراءات بسياج من المشروعية القانونية بحيث ينأى بها عن التحكم والاستبداد ويحيط الشعب بأحكامها وأهدافها بما يحقق نوعا من التوقّع والتنبؤ بإجراءاتها.

تاسعا: وجود جهة محايدة ومستقلة تُعنى بتقييم نتائج المصالحة في مراحلها المختلفة

إن إنشاء هيئة عليا يناط بها تحقيق المصالحة الوطنية يُسهم في حدّ ذاته في نشر الثقة في عملية المصالحة الوطنية، ويضمن وجود جهة محايدة ومستقلة تُعنى بتقييم المصالحة في المصالحة في مراحلها المختلفة، ويتم ذلك عادة عن طريق التقارير والتوصيات الدورية التي تصدرها المفوضية.

وبناء على استعراض تجارب لجان وهيئات للعدالة الانتقالية في الدول الأخرى، نرى أن هيئة العدالة الانتقالية يحسن أن تتمتع بالطابع المختلط، أي أنها تطبق آليات العدالة العقابية والتصالحية.

ويجب أن تتمتع الهيئة بالشخصية الاعتبارية العامة، والحياد، والاستقلال الفني والإداري والمالي، بحيث لا تتبع للسلطة للتنفيذية، ولا ينتمي أعضاؤها إلى تيارات سياسية بعينها، ومن المهم أيضا أن يكون لها ميزانية مستقلة، على أن يقوم عليها الحكماء من رجال الأمة من ذوي الخبرة والكفاءة.

وميزة إنشاء الهيئة على هذا النحو أنها تعمل على معالجة كافة أنواع المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان التي نالت من أطياف ومكونات عدة من المجتمع خلال المراحل السابقة.

____________

المصدر: نقلا عن فقرة في ملف بحثي بعنوان الصفح والمصالحةنشر في العدد الثاني من مجلة يتفكرونعلى موقع مؤمنون بلا حدود“.