مروان المعشر
إذا ما أرادت الأحزاب السياسية الجديدة، المشاركة الفاعلة في العملية السياسية، فينبغي عليها أن تتغلّب على تحدّياتها المؤسّساتية، وتحسّن قدرتها على توفير مايحتاج إليه الشعب على المدى الطويل.
***
التمييز بين الأحزاب في ميدان مزدحم
مع ظهور الكثير من الأحزاب في أعقاب الثورات العربية، واجه الناخبون مهمة شاقّة في محاولة تحديد الحزب الذي سيمثّل مصالحهم خير تمثيل.
أمّا مازاد المشكلة تعقيداً فهو واقع أنّ أحزاباً كثيرة بدت وكأنّها صورٌ طبق الأصل عن بعضها البعض، وتخلو من أي إيديولوجيا، وتعتمد على تأييد مجموعة صغيرة من النخبة.
حتّى تلك الأحزاب التي تبنّت إيديولوجيا معيّنة تبدو في غالب الأحيان وكأنّها تخفّف من مدى تأثير هذه الإيديولوجيا على تحديد هويّتها. وتملك جميع الأحزاب تقريباً مناهج وخططاً غامضة ومتخلّفة.
والنتيجة مستنقع من المنظمات السياسية المتشابهة التي يكاد يستحيل على الناخبين التمييز في مابينها.
غالباً ما اعتمدت الأحزاب على شخصيات مؤسّسيها بدلاً من التركيز على برامج واضحة، الأمر الذي جعلها غير قابلة للاستدامة على المدى البعيد، وأثار الشكّ في صفوف المواطنين من أن يكون هدف هذه الأحزاب الحقيقي هو تمجيد شخصية الأفراد عوضاً عن رفاه الشعب.
إنّ رفض الإيديولوجيا أو تخفيف وقعها هو خيار استراتيجي يعكس قراءة هذه الأحزاب للبيئة السياسية الخارجية والقيود السياسية الداخلية.
وينظر كثيرون إلى الإيديولوجيا على أنّها مسبّبة للانقسام ومجرّدة من فوائد السياسة الفعلية. لذلك، لاترى بعض الأحزاب أي جدوى من تحديد هويّة إيديولوجية لنفسها.
حتّى الأحزاب التي تدّعي انتماءً إيديولوجيّاً تظهر وكأنّها تقلّل من أهميّته للحدّ من الانقسامات الداخلية.
عوضاً عن ذلك، ركّزت هذه القوى الناشئة على تأسيس أحزاب أكبر من خلال إقامة سلسلة من التحالفات السياسية.
وصار يُذكر حزب المؤتمر الوطني الهندي أحياناً كنموذج يُحتذى به، حيث يركّز هذا النموذج على إنشاء تحالفات تحشد الدعم من قواعد محلّية محدّدة، وكتل الناخبين، والأحزاب الأصغر.
والهدف من هذه البنية هو تمكين الأحزاب من التفاعل بشكل أكثر فاعلية مع الشعب واحتياجاته.
ليست هذه الاستراتيجية مخطئة بالضرورة. فالإيديولوجيات البالية لاتروق للناخبين ولاتقدّم حلولاً فاعلة، وبالتالي، الأحزاب محقّة في التركيز على بناء علاقات محلّية مع الناخبين.
إلا أنّ المشكلة تكمن في أنّ معظم هذه الأحزاب في مصر وليبيا وتونس نشأت في ظلّ غياب قاعدة اجتماعية قوية أو علّة وجود أخرى.
يعني هذا الواقع، إضافةً إلى العدد الهائل من الأحزاب، أنّ معظمها لم تتمكّن من التواصل مع عدد كاف من الناس لكي تبرز في الميدان المزدحم بالأحزاب .
وقد تفاقم الوضع بسبب افتقار الأحزاب إلى خطط وبرامج واضحة. فليس لديها سوى القليل لتقدّمه إلى الناخبين الذين يرغبون في التواصل معها. ومن المرجّح أنّ هذا القصور يُعزى جزئيّاً إلى نقص خبرة الأحزاب في الحوكمة.
فقد تمّ استبعاد المواطنين في مصر وليبيا وتونس من عملية صنع السياسات في ظلّ الأنظمة السابقة، وبالتالي، كان من الصعب عليهم طرح مقترحات سياسية جذّابة وواقعيّة.
يمكن أن تتحسّن هذه البرامج حين يكتسب أعضاء الأحزاب مزيداً من الخبرة الانتخابية والتشريعية والسياسية، غير أنّ العائق يكمن بالطبع في أنّ هذه الأحزاب تحتاج أوّلاً إلى حشد مايكفي من الدعم لتتمكّن من المشاركة في الانتخابات.
إنشاء قواعد دعم مستدامة
لاتزال قواعد دعم الأحزاب الناشئة، ومن ضمنها المنظّمون الملتزمون، والمكلّفون جمع التبرّعات، والسياسيّون، وأخيراً الناخبون، في وضعيّة متأخّرة.
وخير دليل على ذلك المستويات المتدنّية من معرفة الناس لأسماء الأحزاب في مصر وليبيا وتونس، حتى الأعرق بينها، ومن الدعم المقدّم إليها.
عوضاً عن ذاك، تعتمد هذه الأحزاب عادةً على مجموعة صغيرة من نخبة أعضائها من أجل جمع التبرعات والظهور السياسي في وسائل الإعلام .
إنّ هذا الاعتماد على مجموعة صغيرة من المانحين الأثرياء غير قابل للاستمرار على المدى الطويل، ذلك أنّ هؤلاء المانحين كثيراً مايستغلّون الأحزاب لمصالحهم الخاصة، بينما يبدأ الناس بالإطلالة على هذه الأحزاب على أنّها فاسدة.
ومع ذلك، يصعب على الأحزاب الناشئة الخروج من هذا الإطار، ويبدو أنّها عالقة في الفخّ هنا أيضاً: فضعف التمويل يجعل من الصعب جذب المناصرين، ونقص المناصرين يحول دون تطوير شبكة قوية ذات قاعدة عريضة لجمع التبرّعات.
إضافةً إلى ذلك، حجم التحديات التي تنطوي عليها المنافسة على الصعيد الوطني يشكّل عائقاً.
فعلى سبيل المثال، ينبغي على الأحزاب التي تأمل في خوض الانتخابات المحلية على نطاق واسع في مصر الاختيار بين 52 ألف مركز شاغر على الأقل.
وبينما تحاول الأحزاب توسيع رقعة نفوذها من خلال فتح مكاتب محلية في مواقع خارج العاصمة، يعني العبء المالي اللازم لتشغيل هذه المكاتب أنّ تمويلها سيقع في غالب الأحيان كلّيّاً على عاتق المنتمين إلى الأحزاب في هذه المواقع. ووجود مثل هؤلاء الأشخاص غير مؤكّد.
في غضون ذلك، يكشف النظر في عمق الموضوع حالةً هائلة من انعدام الثقة المجتمعية في الأحزاب السياسية التي نشأت في خلال عقود الحكم الاستبدادي في مصر وليبيا وتونس.
إنّ الكثير من المواطنين، ومن ضمنهم الناشطون الشباب الذين من شأنهم تعزيز نشاط الأحزاب وظهورها السياسي، سيرفضون الانضمام إلى الأحزاب لاعتقادهم أنّ هذا الانتماء سيقوّض نفوذهم السياسي.
وحين ينضمّ الناشطون الشباب إلى الأحزاب، يكون التزامهم ضعيفاً نوعاً ما.
وقد واجهت الكثير من الأحزاب استقالات جماعية لأعضائها نتيجة عدم رضاهم عن قرارات معيّنة. نتيجة لذلك، كان بناء التحالفات الثابتة صعباً.
وهذا التغيّر المفاجئ يحبط أيضاً توسّع الأحزاب، إذ تمتنع هذه الأخيرة عن اتخاذ القرارت التي قد تزيد من نفوذها ولكن يمكن أن تضرّ بتوازنها الداخلي.
كما واجهت هذه الأحزاب صعوبات في استخدام الأدوات المتاحة لتجنيد المناصرين وبناء قواعد انتخابية أوسع.
وكان الإعلام الاجتماعي تحديداً غير فعّال؛ فمع أنه شكّل منبراً للتعبير عن الآراء، لم ينجح في جذب أعضاء جدد إلى الأحزاب.
***
مروان المعشر ـ نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيجي
_____________
نشرت هذه الدراسة بمؤسسة كارنيجى بتاريخ 13 نوفمبر 2013 بعنوان “الطريق نحو أحزاب سياسية مستدامة في العالم العربي” وهي تستند إلى كتاب “الصحوة العربية الثانية والمعركة من أجل التعدّدية ” وإلى مناقشات مع قادة أحزاب من مصر وليبيا وتونس في إطار ورشة عمل نظّمها برنامج الشرق الأوسط في كارنيغي في عمّان، الأردن، في 30 أيلول/سبتمبر 2013.
_________________________