الفيتوري شعيب
ثانيا، الإسلاميون في المشهد السياسي
يعتبر وجود الإسلاميين في المشهد السياسي الليبي إذا استُثني منهم “التيار السلفي” في كل المراحل التي مرت بها البلاد، يمثل التغيير ويقاوم عسكرة الدولة، فقد كان جُلُّ هذا التيار مع عملية “فجر ليبيا“، وكذلك ضد عملية “الكرامة” ومقاوما لها، خاصة في سنة 2019 عند الهجوم على العاصمة طرابلس.
لكن وجوده في الاتفاقات السياسية وخاصة التي ترعاها البعثة الأممية في البلاد يعتريه شيء من الارتباك وعدم الاتفاق، كما هو الحال في “اتفاق الصخيرات” سنة 2015، حيث انقسم الإسلاميون بين مؤيد ومعارض لهذا الاتفاق، وإن ساروا في ركابه جميعا عندما صار أمرا واقعا.
في المقابل لا يمكن اعتبار التيارات الإسلامية وحدة واحدة، فالاختلاف بينهم واضح وجلي، في الرؤى والتصورات، وكذلك الاستراتيجيات والتكتيكات والتنظيمات والجماعات، حتى أصبحت التعددية لديهم حقيقة واقعية، بل تجاوزت هذه التعددية التنظيمات المختلفة لتطول التنظيم الواحد نفسه، سواء تلك التنظيمات التي كان لها دور سابق في العمل السياسي الليبي ولم يعد لها وجود حقيقي الآن، مثل الجماعة الليبية المقاتلة، والسلفية العلمية، وحزب التحرير الإسلامي، وجماعة التبليغ والدعوة، وغيرها، أو تلك التنظيمات “المتطرفة” التي انتهى وجودها في البلاد بالقوة، أمثال: أنصار الشريعة، والقاعدة، وصولا إلى تنظيم الدولة، لعدّة اعتبارات، لعلّ أبرزها عملية “البنيان المرصوص“.
قادت حكومة الوحدة الوطنية عملية “البنيان المرصوص” ضد تنظيم الدولة، خاصة في مدينة سرت التي شكل فيها قاعدة له في وقت سابق.
هذا التنظيم أوجدته أصلا تطورات المرحلة التي مرت بها البلاد وغياب الدولة، وليس له جذور في المجتمع الليبي، ولكن وجود هذا التنظيم وأمثاله، أتاح فرصا لقوى أخرى كي تفرض واقعا سياسيا جديدا، كما هو الحال مع “عملية الكرامة“.
فهذه الأخيرة عزت سبب وجودها إلى محاربة تنظيم الدولة وأنصار الشريعة، لكن أهدافها كانت أبعد من ذلك، ولم تكن تلك المحاربة من الأولويات؛ بل كان فرض واقع سياسي جديد هو المحرك والدافع الأول لهذه العملية، وتبين ذلك جليا بعد عملية “البنيان المرصوص” التي قادتها حكومة الوفاق الوطني وأسفرت عن القضاء على هذا التنظيم في مدينة سرت الليبية بدعم دولي، حيث حققت حكومة الوفاق الوطني آنذاك المدعومة من الأمم المتحدة انتصارا باهظ الثمن على هذا التنظيم، في حين أن عملية الكرامة لم تحارب تنظيم الدولة في سرت رغم أنها كانت إحدى معاقلها.
أما على صعيد جذور التيارات الإسلامية، فقد كان لتنوعها دور كبير ومؤثر في نشأة المجتمع الليبي وتكويناته، وإن كان مصبوغا في العادة بالمذهب المالكي، والتصوف الإسلامي، نتيجة وحصيلة للامتداد التاريخي للحركة السنوسية في البلاد وحُكمِها لها.
غير أن هذا الامتداد لم يمنع من تَكَوُّن تيارات إسلامية أخرى، سياسية وعلمية وحتى جهادية عبر سنوات متتالية، أمثال: جماعة الإخوان المسلمين، والسلفية العلمية، والجماعة الليبية المقاتلة، وصولا إلى تيارات مسلحة عقب الثورة، أمثال: أنصار الشريعة، والقاعدة، وصولا إلى تنظيم الدولة، وليس انتهاء بالكتائب المؤدلجة في شرق البلاد وغربها.
وللإسلاميين راهنا وجود فاعل في بعض مؤسسات الدولة، كالأوقاف مثلا يمثله التيار السلفي. وأيضا لجماعة الإخوان المسلمين وبعض الشخصيات المستقلة وجود في المجلس الأعلى للدولة ويمثلون نسبة كبيرة فيه.
ويمكن القول بشكل عام إن للإسلاميين وجودا فعّالا في المشهد السياسي الداخلي وحتى الخارجي، فكل الحوارات التي قادتها البعثة الأممية لحل الأزمات المختلفة في البلاد كان للتيارات الإسلامية وجود وتمثيل فيها سواء بشكل استقلالي فردي، وإن كان ذلك لا ينفك عن التيار المنتمين إليه بطريقة أو أخرى، أو بمشاركة التيارات نفسها ممثلة باسم الجماعة أو التيار بذاته.
أـ جماعة الإخوان المسلمين
تعتبر جماعة الإخوان المسلمين من أهم التيارات الإسلامية الفاعلة في المشهد السياسي الداخلي، وهي تسعى للدخول في السلطة بما يحقق أهدافها الداعية إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية ذات مرجعية إسلامية، تحكم بالشريعة الإسلامية، وتلتزم بالتداول السلمي على السلطة.
أدّت جماعة الإخوان المسلمين في الثورة الليبية دورا بارزا، عبر عمل جماعي منظم أو عن طريق أشخاص في الجماعة، ابتداء من تكوين “المجلس الوطني الانتقالي” أول جسم يحكم البلاد بعد نجاح الثورة، مرورا بإنشاء “المؤتمر الوطني العام” الذي كان أول جسم تشريعي يتم انتخابه من القاعدة الشعبية للمجتمع، وصولا إلى وجودهم في الاتفاق السياسي “اتفاق الصخيرات“، والأجسام التي نشأت عنه، من “المجلس الأعلى للدولة” وحكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي.
لكن قوة الجماعة في السلطة تراجعت لاحقا، ويعتبر وجودها في النظام السياسي راهنا وجودا غير فعّال بالدرجة التي كان عليها في السابق. فمثلا في غرب البلاد يرتكز ثقلها في المجلس الأعلى للدولة –الجسم الاستشاري– عبر أعضائها الذين يمثلون نسبة كبيرة فيه، أما الحكومة التنفيذية فليس لها تأثير حقيقي فيها.
وقد مرت الجماعة بمنعطفات ومسارات متعددة في السنوات العشر الماضية، سواء على الصعيد الداخلي لها، أو الخارجي، ويمكن تلخيص أهمها في محطات ثلاث:
ـ إنشاء حزب سياسي:
عقدت الجماعة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، مؤتمرا جامعا في بنغازي لأعضائها، وكان أول لقاء جامع للإخوان في ليبيا وضمَّ كثيرًا من إخوان الداخل والخارج، وقرَّروا فيه إنشاء حزب وطني مستقل عن جماعة الإخوان المسلمين.
تأسس هذا الحزب بالفعل في 2012 تحت اسم حزب “العدالة والبناء“)، ليكون الفاعل السياسي الأبرز من بين كُتل سياسية إسلامية أخرى وغير إسلامية في الساحة السياسية في البلاد. وقد كانت هذه الخطوة هي الأهم للجماعة ومن أسباب تقويتها.
ـ الانخراط في السلطة:
أدت الجماعة في الساحة السياسية دورا بارزا في المجلس التشريعي الأول، المؤتمر الوطني العام، وكان لها أكثر من موقف وفعل سياسي داخل المؤتمر، سواء في اختيار رئيس الحكومة أو في القضايا السياسية المختلفة التي كانت تطرح تحت قبة المجلس التشريعي، الأمر الذي أهلها لأداء أدوار سياسية بارزة فيه في ذلك الوقت. لكن لما وصلت الجماعة إلى “اتفاق الصخيرات” انقسم أعضاء حزبها حوله، وإن كانوا قد أقروه.
ـ الانقسام:
انقسمت الجماعة في أعقاب إقرار اتفاق الصخيرات بين مؤيدين له ومعارضين، ولم يكن هذا الخلاف طارئا، بل كان يعكس نهجين يتعايشان في الجماعة، خاصة بين سنة 2014 و2021، وكان لذلك دور بارز في انقسام الحزب إلى قسمين:
الأول، يرى أن الحزب لابد أن ينهج نهجا هادئا تقليديا، أي تجنُّب الصراعات السياسية مع القوى الأخرى والتركيز على الدعوة وبناء المجتمع.
الثاني: يرى ضرورة مشاركة الحزب في العمل السياسي بفعالية وأن تكون له الأولوية، وأن يكون الحزب جزءا من التحولات السياسية محليا ودوليا.
انتهى هذا الاختلاف إلى الانقسام في المؤتمر العام للحزب في 19 يونيو/حزيران 2021، وقد توالت الاستقالات من المناصب العليا في الحزب، وانتخب عماد البناني رئيسا لحزب العدالة والبناء، واتجه المعارضون إلى تكوين حزب جديد بأبجديات أخرى أطلق عليه “الحزب الديمقراطي“، وجرى إشهاره في أكتوبر/تشرين الأول 2021 .
كما أن جماعة الإخوان المسلمين انتهت تنظيميا سنة 2021، فقد أعلنت الجماعة حل نفسها، في 2 مايو/أيار2021، وتحوُّلها إلى جمعية دعوية هي “جمعية الإحياء والتجديد” التي أصبحت الوجه الدعوي لحزب العدالة والبناء.
وبالتالي فإن الخطاب العام للحزب لم يختلف عن خطاب الإخوان المسلمين السابق؛ فالحزب ذو مرجعية إسلامية، ويدخل في المشاركة السياسية من هذا القبيل، في كل برامجه، وتأخذ السياسة حيزا كبيرا من أعماله وبرامجه أكثر من الجانب الدعوي المحض الذي أصبح من اختصاص الجمعية.
هذا المسار أفضى بالجماعة إلى الفصل فيها بين الحزب السياسي والجماعة الدعوية في السياق الليبي، ولم تستطع أن تستمر قوة فاعلة في المشهد السياسي الليبي كما بدأت.
إن التحولات التي مرت بها الجماعة كان سببها الرئيسي سياسيا، أي أنها تحول في مسار سياسي، ذلك أن “الحزب الديمقراطي” انتهج نهجا مخالفا لما يتبناه التيار المحافظ في الجماعة الذي يمثله الآن حزب “العدالة والبناء” برئاسة عماد البناني.
غير أن الخلافات توسعت بين الطرفين أكثر، فقد ذهب “الحزب الديمقراطي” الوليد، إلى التحالف مع برلمان الشرق الليبي المؤيد لعملية الكرامة، الأمر الذي رآه المحافظون مسًّا بالثوابت والقيم التي تناهض عسكرة الدولة، وعودةً إلى مربع “الاستبداد“، باعتبار أن عملية الكرامة عملية “انقلابية” على المسار التشريعي في البلاد.
…
يتبع
***
الفيتوري شعيب ـ كاتب ليبي وأستاذ جامعي، متخصص في العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي، له مؤلفات وبحوث محكمة، والعديد من المقالات الفكرية والسياسية، شارك في العديد من المؤتمرات والندوات المحلية والدولية.
_____________