علي المنتصر فرفر
الحالة الليبية
لم ترتبط المواطنة بالمشاركة السياسية بشكل كامل في الحالة الليبية عند تحقيق استقلال البلاد في 24/12/1951؛ إذ نص أول قانون انتخابي صدر في البلاد بتاريخ 6/11/1951 في مادته الأولى على أنه يعتبر ليبيّاً كل شخص يقيم في ليبيا وليس لديه جنسية أخرى، ولا يكون من رعايا بلد آخر إذا ما استوفى شرط أن يكون هو أو أحد والديه قد ولد في ليبيا، وأنه أقام في ليبيا مدة لا تقل عن عشر سنوات.
ولكن المادة الثالثة في نفس القانون تشترط لممارسة الحق الانتخابي أن يكون الناخب ليبيّاً ذكراً قد أكمل واحداً وعشرين عاماً ميلادياً.
وبهذا تكون المرأة الليبية قد تم شمولها بالمواطنة ولكن تم استبعادها من المشاركة الانتخابية.
ولم يكن هذا الموقف القانوني إزاء المشاركة السياسية للمرأة حكراً على ليبيا، إذ شهد تاريخ بلدان أخرى إجراءات مماثلة حيث نص دستور 1791 في فرنسا مثلاً على استثناء النساء من حق الانتخاب، ومن حق ترشيح ممثلين للمرأة في المنتديات الثورية وفي كومونة باريس؛
بيد أن هذا الأمر يحتاج إلى دراسات دولية مقارنة عن مسألة التطور التاريخي لعلاقة النوع البشري بالحقوق السياسية عموماً وحق الانتخاب بشكل خاص.
وفي كل الأحوال، فإن الممارسة الانتخابية الليبية معدودة محدودة بشكل لا يتيح المجال لتحقيق راسخ لثقافة المشاركة؛
فمنذ استقلال البلاد عام 1951 لم يتم اجراء سوى خمسة انتخابات برلمانية خلال العهد الملكي في تواريخ: 19/2/1952 و7/1/1956 و 17/1/1960 و 10/10/1964 و8/5/1965.
ثم انتخابات المؤتمر الوطني العام بتاريخ2012/7/7 وانتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور بتاريخ 2014/2/2 وانتخابات مجلس النواب بتاريخ 25/6/2014.
وبالرغم من أن المعيار الأبرز في عملية الإنتخاب لا يتمثل فقط في عدد مرات إجرائها؛ بل أيضاً في مدى أهمية القرارات التي تتخذ من خلالها؛ فإن مسألة مدى المشاركة تمثل عنصراً هاماً من عناصر الفعل الديمقراطي.
فإذا تجاوزنا الانتخابات البرلمانية الخمسة التي أجريت خلال العهد الملكي باعتبار أن المشاركة فيها انتخاباً وترشحاً كان حكراً على الذكور؛ فإن الانتخابات الثلاثة التي جرت خلال عامي 2012 و 2014 شهدت انحساراً في نسبة المشاركة التي وصلت إلى حوالي 62% خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام عام 2012 ثم تراجعت إلى حوالي 45% في انتخابات الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور عام 2014 وازدادت تراجعاً إلى حوالي 42% في انتخابات مجلس النواب في شهر يوليو من نفس العام (2014).
لم تكن مرحلة التحوّل الديمقراطي عبر الانتخابات في ليبيا سهلة ولا مريحة؛ إذ شهدت الانتخابات البرلمانية التي عقدت عام 1952 مشاحنات حول نتائجها، حيث حصل داعمو الملك على عدد 37 مقعداً من أصل 55، بينما لم يحصل حزب المؤتمر الوطني بزعامة بشير السعداوي إلا على ثمانية مقاعد؛ الأمر الذي أدّى إلى وقوع اضطرابات بسبب ما ذكره حزب المؤتمر الوطني عن وجود تلاعب في النتائج الانتخابية مما قاد إلى إعلان الملك ادريس إلغاء الأحزاب السياسية، وأرغم بشير السعداوي على الخروج إلى المنفى بمصر بتاريخ 22/2/1952، أي بعد ثلاثة أيام فقط من تاريخ عقد هذه الإنتخابات.
ولربما كان شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي قد استشعر مبكراً مصدر الصعوبات التي قد تواجه العمليات الإنتخابية الليبية عندما رشحته الجمعية الوطنية (جمعية عمر المختار) لعضوية مجلس نواب برقة حيث نشرت على ورقة الدعاية الانتخابية لحملتها صورة شخصية له مرفقة مع بيتين له من الشعر:
حكم ضميرك (أنت حر) وانتخب خير الرجال لمجلس النواب
لا يمنعنك من أداة شهادة حب القبيلة أو هوى الأحزاب
ففي الوقت الذي تغيب فيه الثقافة السياسية الواعية، تصبح احتمالات استخدام القبيلة التي هي كيان اجتماعي سياسياً، والسعي إلى تقديم المصالح الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن عائقاً أمام القرار الانتخابي الوطني الحر، لأن إدلاء المواطن بصوته – كما يراه الشاعر– يمثل شهادة مثل الشهادات التي تقدم لدى المحاكم، والتي يجب وفقاً لقواعد الشرع والأخلاق أن تتسم بأعلى درجات المصداقية والنزاهة.
بيد أن منطق الحل في مثل هذه المسائل لا يمكن له أن يتمثل بطبيعة الحال في تجاوز القبائل أو إلغاء التنظيمات السياسية؛ بل في الحرص على تأصيل ثقافة الحوار ونبذ الأصولية والإقصاء، لأن التواصل والحوار يرتبطان دائماً بمبدأ التعددية والسعي الحثيث نحو توفير أقصى قدر ممكن من المعلومات والمعارف من أجل تكوين آراء مستنيرة ناضجة يمكن من خلالها الوصول إلى القرارات الصائبة لمصلحة الوطن والمواطن.
ولقد أشارت دراسة أجرتها المؤسّسة الدولية للنظم الانتخابية في ليبيا عام 2018 إلى موافقة 54% من الليبيين الذين شملتهم عينة الدراسة على مبدأ أن الانتخابات تعطي المواطن العادي الفرصة للتأثير في عمليات اتخاذ القرار في ليبيا.
كما أشارت نفس الدراسة إلى أن 84% منهم يرون أن الانتخابات مسألة مهمة يجب أن يشارك بها كل ليبي، وهو ما يعني أنه رغم الإحباطات التي عاناها الليبيون من قبل الأجسام السياسية التي أنتجتها هذه الانتخابات، فإنهم لا يزالون يثقون بأنفسهم وبقدرتهم على تغيير مجرى الأمور في البلاد عبر الأساليب الديمقراطية.
كل ذلك يقود إلى ضرورة ترسيخ ثقافة الديمقراطية من خلال الممارسة، والسعي إلى التصويب المستمر لأية أخطاء قد تحدث خلالها؛ إذ لا يمكن أن تتوقف عجلة البناء الديمقراطي بسبب أخطاء ترتكب، ولا يمكن تأجيل هذا البناء إلى حين توفر الشروط المثالية لتشييده.
أما الإعلام فبإمكانه أن يسهم في تسريع إنجاز هذا البناء اذا ما التزم الاعلاميون فيه بأن تكون المنابر الإعلامية الليبية منابر مشتركة لكل الليبيين.
الإعلام يحتاج إلى أن يصبح وسيلة الأفراد لتحقيق ذواتهم، وأداة لتطوير المعرفة واكتشاف الحقيقة، والوسيط القادر على تحقيق مشاركة الناس في اتخاذ القرار، وإيجاد مجتمع مستقر قادر على تجاوز الفساد الانتخابي، وفضح كل ما تريد السلطة الحاكمة إبقاءه بعيداً عن مسامع الناس وأنظارهم، أي باختصار كل مظاهر سوء استخدام السلطة، ومظاهر تهديد المؤسسات الديمقراطية. الإعلاميون في خضم المنافسات السياسية ليسوا مرشحين لأي موقع سياسي، وليسوا أداة بيد أي تيار سياسي أو جسر عبور لأي من تلك التيارات من أجل الوصول إلى السلطة، وليسوا طرفاً سياسياً على مسرح السياسة.
لأن الإعلامي المهني بهذا المعنى ليس المؤلف المسرحي، ولا مخرج المسرحية، بل هو الشخص المؤتمن من قبل الناس على تجهيز قاعة المسرح لكي يستخدمها كل من يرغب في عرض أي من أعماله خدمة للوطن والمواطنين.
***
علي المنتصر فرفر ـ أستاذ الإعلام في عدة جامعات ليبية
______________